فليس الجمع في حياة واحدة بين لحظتين تتبادلان السيادة، مسألة فلسفية نظرية وكفى، بل هي وصف للحياة كما نحياها، ولكن إذا كانت هذه المزاوجة بين عقل وحرمان هي ما يحياه الإنسان عامة، والمصري بصفة خاصة، ففيم العناء في الدعوة إليها، ثم لماذا تلقى المعارضة أحيانا؟ جوابي هو أن هذين الجانبين، على ضرورة وجودهما معا، إلا أنهما يتفاوتان طولا وقصرا مع المناخ الثقافي الراهن. وإنهما ليتعادلان في فترات القوة، ويختل بينهما ذلك التعادل في فترات الضعف. وظني هو أن مناخنا الحاضر قد اقتضى زيادة في طول الضلع الوجداني ، وانكماشا في الضلع العقلي والعملي. ومن هنا جاءت دعوتي إلى وجوب التوازن. ومن هنا أيضا جاءت المعارضة.
وعلى أية حال فهي وجهة نظر تستحق المتابعة والإلحاح، فإن اعترضني من يستخف بالمسألة وبجوابها، أسرعت بدوري إلى كسر مغزلي؟ اللهم لا. لن أكسر مغزلي؛ فالحياة - كما قال شوقي - عقيدة وجهاد.
كيف يولد طاغية
كان حوارا جميلا بيني وبين غلام يتوقد ذكاء في نحو السادسة عشرة من عمره، لكن ذكاءه يسبق عمره بسنوات. جاء ليسمر معي كما يجيء مع ذويه حينا بعد حين كلما جاءنا هؤلاء للزيارة. وأني لأفرح بقدومه فرحة الزميل يلتقي بزميله؛ فأنا أحب حديثه كما يحب هو حديثي وكأننا صنوان لا تفصل بينهما ستون عاما. فنحن إذا ما ربطت بيننا أواصر الحديث كنا بمثابة البرهان القاطع نقذف به في وجه من يتحدثون عن صراع الأجيال؛ فقد تكون الأجيال متصارعة في سائر الأرض. وأما في مصر فالأجيال موصول بعضها ببعض، تتعاقب كأنها الموجات المتلاحقة على سطح النيل وهو ينساب في جلاله ووقاره غير عابئ بفواصل السنين.
أما حب الفتى الذكي لحديثي فلأنني لا أسوق في عبارتي كلمة واحدة تشعره بأنه صغير يتحدث إلى كبير. ولماذا أفعل؟ إنه في الحق وإن يكن صغيرا في عمره فهو كبير في فكره. وأما حبي أنا لحديثه فلأنه قلما يجيء ووفاضه خال من اللمحات اللوامع يعرضها في براءة، وهي في حقيقتها لمحات تستوقف الفكر بغزارة مدلولها.
وكان آخر ما رواه لي من لمحاته تلك أن قال: كان عندنا في البيت قليل من مخزون الأرز، وفوجئت أمي ذات صباح أن بللا قد أصابه من ماء رشح به جدار الغرفة المرطوب، فأسرعت إلى نشره في الشرفة الخارجية ليجف بشمسها وهوائها، وطلبت إلي مراقبته، فجلست خلف زجاج النافذة بحيث يكون الأرز المنشور على مرأى مني، فما هو إلا أن حط عصفور على مقربة قريبة من الأرز. ولأمر ما وجدتني ألزم جلستي الساكنة أوثر أن أرقب العصفور كيف يسلك إزاء الغنيمة بل أن أحمي الأرز من اعتدائه. فلحظت يا عمي في العصفور أمرا عجيبا إذ أخذ العصفور يتلفت بحركة سريعة هنا وهنا قبل أن يقدم على التقاط الحب، كأنما أراد أن يستوثق من غيبة الرقيب، حتى إذا ما اطمأن بعض الشيء خطا خطوتين في حذر شديد وأصبحت حبات الأرز على ملقط منه، لكنه على ذلك تريث لحظة وراح من جديد يتلفت يمنة ويسرة وإلى الأمام. ولعله لم يجد حوله ما ينذر بالخطر فالتقط حبة واحدة بلقطة سريعة كادت تسبق بسرعتها سرعة البصر. ثم سكن لحظة وعاد يتلفت ليرى ماذا عسى أن يدهمه من أسباب. فلما لم يجد إلا الهدوء والأمان انكب على الأرز يلتهم منه ما ملأ حويصلته وطار.
قلت للفتى مداعبا ولماذا تركت العصفور ينهب من أرزكم ما شاء أن ينهب مع أنك قد جلست إلى جواره لترقبه وتحميه؟ فأجاب الفتى: وجدت في دراسة العصفور ما هو أغلى من بضع حبات الأرز. ولقد تعلمت كيف يبدأ المعتدي بالحذر والخوف حتى إذا ما أمن مغبة الاعتداء ملأته الشجاعة فأقبل على العدوان بكل قدرته وهو مطمئن آمن أو قل إنه كالمطمئن الآمن لا يحول شيء بينه وبين السير في شوطه إلى آخر المدى. لقد وجدت في هذا الدرس أتعلمه من العصفور متعة تفوق ألف مرة ما ضاع علينا من الأرز. ولو علمت أمي بالأرز الضائع وأنحت علي بلائمة أجبتها: لا عليك يا أمي أنقصي من نصيبي في الأرز ملعقة.
سألت الفتى الذكي قائلا: وماذا كان مضمون الدرس الذي تعلمته من العصفور والأرز؟ فأسرع الفتى بالجواب: هو أن سكوت صاحب الحق المنهوب سرعان ما يجعل الناهب صاحب حق في الاعتداء. ذلك على الأقل في عالم الطير. وقد يكون الأمر كذلك في عالم الحيوان بأجمعه. ولست أدري ماذا تكون الحال في عالم الإنسان.
قلت للفتى: ترى هل قرأت الكتاب الصغير الذي أعطيتك إياه منذ بضعة أشهر وفيه مجموعة من حكايات هندية؟ فقال الفتى: نعم قرأته. قلت له: حاول أن تتذكر حكاية منها عن أطفال وثعبان لنرى معا هل تدل الحكاية على شيء في هذا السبيل ...
انتفض الصبي واقفا وقفة ظافر منتصر وقال: نعم، نعم؛ فهي حكاية تحكي عن فقير هندي عابد انتبذ لنفسه مكانا مهجورا وهناك لحظ على مر الأيام ثعبانا ضخما كيف يتربص لفرائسه فقال له العابد الفقير لماذا لا تعلن التوبة من هذا الشر لتفوز بالرضا والسكينة؟ فاقتنع الثعبان بالنصح وتحوى في ركن من أرض خراب يأكل ما يقذف به إليه المارة. وذات يوم جاء أطفال يلعبون فما إن رأوا الثعبان ملتفا على نفسه جنب الحائط حتى أسلموا سيقانهم الصغيرة للريح. ثم عادوا في الصباح التالي ليجدوا الثعبان على ما رأوه به يوم أمس فتشجع منهم طفل وقذف الثعبان بحجر واحد وجروا جميعا فازعين. وكان اليوم الثالث وكان الثعبان على استكانته، فتشجع أكثر من طفل ورمى كل منهم أكثر من حجر. وهكذا اطمأن الأطفال مع الأيام أن ليس لعدوانهم ما يرده، فكانوا يمطرون الثعبان بوابل من الحجارة فذهب إلى حيث الفقير العابد وشكا إليه ما يلقى، فقال له الرجل: امض في استسلامك على أن تتحرك آنا بعد آن بما يخيف الأطفال ولك في ذلك ثواب هو أن يكفوا عن العدوان.
صفحه نامشخص