سجناء الكهوف عندنا كثيرون، كل ينضح من ذاته الخاصة، ويريد أن يفرض ما ينضحه على الآخرين، وليس في ذلك بأس إذا كان الأمر أمر ذواق ومزاج. وأما إذا كان المطروح موضوعا عاما، ويراد فيه كلمة الحق التي لا شأن لها بشجرة الأنساب؛ بحيث يزداد وزنها إذا جاءت من الوجهاء ذوي النسب الشريف، ويخف وزنها إذا جاءت من عابري السبيل. أقول إنه حيثما يراد في موضوع عام كلمة حق موضوعي، تستطيع أن تكون أساسا للبناء، فلا مندوحة لأولي الشأن عندئذ عن الخروج من ظلام الكهوف التي هم سجناؤها.
لماذا ارتفعت السماء؟
نعم، لماذا ارتفعت السماء فوق الرأس واتسع الأفق أمام البصر؟ كان ذلك لكي يعلو الإنسان بطموحه إلى غير نهاية، ولكي ينفسح أمامه الأمل بغير حدود؛ فكلما علا رأسه إلى السماء، وجد فوقه سماء، وكلما قطع شوطا إلى الأمام، وجد أمامه شوطا، وذلك هو الإنسان: في جسده حيوان يشده إلى أسفل، وتسري فيه روح ملائكية تشده إلى أعلى! إنه إنسان، لكي يتأرق ليعلو على الإنسان!
إن الخنزير خنزير، ولا يطمع في أن يكون شيئا غير خنزير ينسل من بعده الخنازير. وأما الإنسان فقدماه على الأرض ورأسه في السماء؛ قدماه تشدانه إلى «الواقع»، وطموحه يدفعه دفعا ليرتفع فوق ذلك الواقع، وإلا فكيف يتاح له ارتقاء، إذا هو لم يجاوز حدود واقعه ليعلو عليه؟
الخنزير مقيد بمكانه وزمانه. وأما الإنسان فذو خيال يحطم به حدود المكان والزمان؛ فإذا كانت قدماه مشدودتين إلى موقعهما من الأرض، فقوة خياله تطير به إلى الأعلى السماء، وإذا كان زمانه مرهونا بلحظته، فخياله قادر على أن يحمله فوق جناحيه إلا اللانهاية. والعاجزون وحدهم هم الذين ينظرون إلى الإنسان ويقولون عنه إنه «إما ... وإما»، ولا جمع بين الطرفين؛ فهو إما مقيد بواقعه المحدود مكانا وزمانا، وإما روحاني لا يقيده واقع. العاجزون وحدهم هم الذين يقولون هذا، وكأنما ليست لهم نفوس يستشفونها من الداخل، ليعلموا أن الإنسان هو هذا وذاك معا. ولكل من الحالتين في حياة الإنسان لحظتها؛ فهو ساعة أن يكون عالما في معمله أمام المخابير، أو في مكتبته وبين يديه المراجع، وساعة أن يكون مباشرا لتصريف من تصاريف حياته العملية، فعندئذ تكون السيادة المطلقة لما تراه العين وما تسمعه الأذن وما تحسه الأيدي من الأمر الواقع، وإلا لما استطاع العلماء أن يحصلوا علما صحيحا، ولا استطاع المباشرون شئون حياتهم العملية أن يحققوا لأنفسهم الطعام والمأوى.
ولكن ليس ذلك كل شيء في حياة الإنسان؛ لأن له لحظة أخرى يعيشها إلى جانب اللحظة التي يكون فيها عالما أو عاملا. وتلك اللحظة الثانية إذا ما حانت، انفتحت أمامه الأبواب المغلقة والنوافذ؛ فلا «واقع» هنا يسجنه بين جدرانه، ولا مكان هنا يقيده، ولا زمان يحدده؛ فهو إذا أقام الصلاة ووقف في حرمها المقدس أمام مولاه جل وعلا، كان في حالة من الشهود تخرجه من القيود والسدود؛ إنه في لا مكان وفي لا زمان، إنه كائن عابد؛ فهو عندئذ لا هو عالم ولا عامل. وهل سمعت حكاية ذلك العابد الذي عطبت له ساق، أو غير الساق من أعضاء جسده، وكان لا بد له من جراحة، ولم يكن الناس في ذلك الزمان القديم يعرفون المخدر الذي يستخدم اليوم في حالات الجراحة، فطلب ذلك العابد أن تجرى له جراحة العضو المعطوب وهو يؤدي الصلاة؛ وذلك لأنه كان يعلم أنه ساعة صلاته لا يظل جسدا يرى ويسمع ويحس؛ لأنه وهو في الحضرة الإلهية يكون في عالم آخر غير هذا العالم المحدود بواقعه.
وليست العبادة هي الحالة الوحيدة التي تخرج الإنسان من واقعه المحدود، بل هنالك كذلك حالة النشوة الفنية؛ فمن عرف كيف يتأمل قطعة من الفن كائنة ما كانت؛ موسيقى، أو شعرا، أو تصويرا، أو أي نوع فني آخر، عرف أنه في لحظة تأمله ذاك، إنما هو بمثابة من ترك العالم المحيط به ودخل عالما آخر تسوده قوانين أخرى غير القوانين السائدة في دنيا الأشياء والحوادث. ولو لم يكن الأمر كذلك لنفر القارئ من دنيا الخيال التي أدخل نفسه في رحابها، وهو يقرأ - مثلا - عن بساط الريح، أو عن مصباح علاء الدين، لكنه - وهو داخل العالم الخيالي في دنيا الأدب والفن - لا ينفر من شيء خارق للطبيعة؛ لأنه يعلم منذ دخوله في ذلك العالم أنه أمام مجموعة أخرى من القوانين؛ ولذلك قيل إلى من عرف كيف يحيا في دنيا الفنون، عرف بالتالي كيف يحيا حياة الحرية التي يستحيل على أحد أن يسلبه إياها، مهما بلغ من جبروت الطغيان. ولا عجب أن يقال في هذا الصدد إن السجين وهو في غيابة سجنه في مقدوره أن ينظر من خلال القضبان إلى ما يكن رؤيته من مشاهد الطبيعة، فإذا ما تأملها تأمل الفنان كان كمن أخرج نفسه من محبسه.
وحالات وجدانية أخرى كثيرة، منها حالات الحب بكل ضروبه، لا يكون الواقع المادي المحسوس، بقيوده وحدوده، هو صاحب السيادة كل السيادة، مما هو معروف ومألوف للناس أجمعين.
فهل تصدق أن هذه التفرقة الواضحة بين اللحظتين؛ لحظة أن يكون الإنسان محصلا للعلم، أو ممارسا للعمل؛ حيث تكون السيادة للعقل وحده مستعينا بالحواس من بصر وسمع وغيرهما، ولحظة أن يكون الإنسان مسلما زمامه لوجدانه؛ في عبادة، أو في تأمل لنتاج أدب وفن، أو في حب يشتد فيطمس السمع والبصر. أقول: هل تصدق أن هذه التفرقة الواضحة بين هاتين اللحظتين من حياة الإنسان، قد تعذر إدراكها على كثيرين؛ فلقد اجتاز كاتب هذه السطور محنة بعد أخرى، كلما قرأ أو سمع بأن ثمة من لم يفهم عنه هذه التفرقة التي أخذ بها منذ كانت له وقفة فكرية محددة، قوامها أنه إذا كانت اللحظة لحظة علم أو عمل، فالعقل مستعينا بالحواس، هو صاحب السلطان، والأمر الواقع وحده عندئذ هو مجال النظر. وأما إذا كانت اللحظة لحظة حياة للوجدان في أية ناحية من نواحيه ، وجب على العقل وحاشيته أن يتنحى، وعلى الواقع المادي أن يذوب؛ لأن المجال وقتئذ لا هو مجال للعقل ولا هو مقيد بحدود الواقع، فكان هناك من قرءوا الشطر الأول ولم يقرءوا الشطر الثاني، وكان موقفهم من كاتب هذه السطور، موقف من وقف من الآية الكريمة عند الجزء القائل:
لا تقربوا الصلاة ، وكان لهذا الكاتب من ذلك كله ما أدخله في محنة نفسية بعد محنة، وسبحان الله علام الغيوب وعلام القلوب.
صفحه نامشخص