وما زلنا نذكر تلك الحمأة التي أصابت أصحاب الأدب والفن، بل ورجال الفكر في أعلى مستوياته. كيف أخذتهم الكراهية إبان العقد السابع (الستينيات) وبعض العقد الثامن (السبعينيات) لكل ما يفرض عليهم إيقاعا معينا ينظم خطوات السير في البناء الفني، بل هم لم يقفوا عند حد الكراهية الصامتة، وراحوا يهجمون عليه بالتهم التي كانت تهمة «الرجعية» أقلها وأهونها؟ ذلك لأنهم لم يكونوا يريدون لحركة الفكر أو حركة الإبداع ما يحول دون انطلاقها حرة كأنها ثورة الحمم الثائر في تدفقه الهادر من فوهات البراكين.
يقول إن ذلك كله كان أمرا طبيعيا حين كانت سورة الغضب ما زالت تملأ نفوسهم الثائرة؛ فالشعر لا يتقيد بوزن أو قافية.
والقصة لا تتقيد بخط مستقيم من تسلسل الأحداث والفكر يتحلل من شروط المنطق، والموقف كله بمثابة مستجير من العقل باللاعقل. وساد الظن بأن هذا الفكاك من القواعد هو «الحرية» التي ينشدونها، فكرر القول بأن ذلك ربما كان من طبائع الأمور في أعقاب الثورة.
ولا بد أن يكون القارئ على علم بالحالتين اللتين تتناوبان الوقوع مع الأيام.
وهما المعروفتان بالكلاسية والرومانسية، أو قل - إذا شئت لهما لسانا عربيا - إنهما الاتباع والابتداع، وهما الاسمان العربيان اللذان صاغهما لأول مرة - فيما أعتقد - المرحوم أحمد حسن الزيات؛ فهما حالتان تتعاقبان على الناس، فإذا ما نشبت حرب كبرى، أو انبثقت ثورة، كان من الطبيعي أن يميل الناس إلى فك القيود بكل أشكالها، وتلك هي حالة «الابتداع» التي يراد بها أن تصوغ لنفسها طريق سيرها، لكن الأيام تمضي بعد ذلك، فينقشع الدخان، ويسكن اللهب، وتستقر الحياة الجديدة على أوضاعها الجديدة. وها هنا تصبح تلك الأوضاع نفسها هي القواعد التي نتوقع لها أن تراعى. وبهذا تسود حالة «الاتباع». وهكذا دواليك.
فإذا كان لنا عذرنا خلال الستينيات وبعض السبعينيات، في أن نمقت التقاليد المرعية ونخرج عليها لنضع لأنفسنا ما هو جديد، فما عذرنا اليوم إذا لم نقتن ذلك الجديد نفسه ليصبح هو «القواعد» التي يلتزمها الفنان، والتي يتوقعها الناقد فينقد على أساسها؟ كنا نقول - مثلا - ما الذي يقيدنا بأشكال معينة في الشعر، وفي القصة، وفي المسرحية؟ وفي التصوير؟ وفي النحت؟ بل كنا نقول في مجال الفكر: ما الذي يلزمنا بمنطق اللغة ومنطق العقل؟ نعم، كنا نقول ذلك جادين. ولكم سأل السائلون: لماذا لا يصاغ الشعر بالعامية التي هي لغة الجماهير؟ ولماذا لا نجهز على أرستقراطية الثقافة، لنجعلها ديمقراطية فتصادف هوى عند الجماهير؟ وهكذا، كأنما تلك «الجماهير» (بالجمع) ليس فيها «جمهور» يريد ما هو أعلى، وجمهور آخر يريد ما هو أدنى؛ فكل بحسب ما كسب من تعليم وتثقيف، وكأنما الجمهور الأرفع بثقافته ليس جزءا من الشعب، له حقوق تقابل حقوق الجمهور الأقل ثقافة.
كانت تلك حركة ابتداعية أعقبت الثورة. ونحن نسأل الآن إذ نقف على مشارف الثمانينيات: أما آن الأوان لمرحلة اتباعية تقوم على قوائم ثابتة، أو تقرب من الثبات؟ إن استمرارية الثورة ضرب من المحال. وحتى إذا كانت ممكنة، فليست هي بالشيء المرغوب فيه وهي كحال الجري؛ فيستطيع الإنسان الجري حينا ليسرع، لكنه لا يستطيع، بل ولا يجب أن يواصل الجري بلا وقوف أو قعود، حتى تهدأ أنفاسه، وينعم مما قد حصله.
وأحسب أننا لم نكن بدعا في الستينيات وما قبلها بقليل، حين أخذتنا حرارة الثورة على الأوضاع القائمة - في الحياة الواقعة وفي الثقافة معا - فالعالم كله قد ارتج ارتجاجا عنيفا إزاء القيم القديمة. وها هي تلك حركات الشباب التي بلغت ذروتها في أواخر الستينيات، والتي أرادوا بها أن يغيروا كل شيء، من الثياب، إلى الطعام، إلى التعليم، والموسيقى، والرقص، والغناء، وكل شيء. لقد كانت بحق فترة اهتزت فيها الأرض بالثورات على التقليد أشكالا وألوانا. لكن جولة بأبصارنا إلى العالم الآن، كفيلة أن تبين لنا كيف ينحسر الموج الهائج ليستقر الماء، ولترسو سفائن الحياة على مرافئ الثبات والهدوء. وإذن فلن نكون بدعا بين الناس إذا نحن طالبنا في حياتنا الثقافية بالعودة إلى قواعد.
وليس من شأن القواعد التي نطالب مبدعي الثقافة بالعودة إليها، أن تحجر على حرية الكاتب أو الفنان. وكل ما في الأمر أن يكون لكل لعبة قواعدها التي تميز الصواب فيها من الخطأ، دون أن تقيد اللاعب في حركته وإبداعه. لا فرق في هذا بين رجال العلوم ورجال الفنون ولاعبي الكرة. أليس للبحث العلمي في شتى ميادينه منهج محدد دقيق، يلتزمه الباحث في خطوات سيره، وإلا لرفضته أسرة العلماء؟ ماذا لو تقدم واحد من علماء الفلك - مثلا - أو علماء الكيمياء إلى زملائه بنظرية جديدة دون أن يبين لهم كيف كان طريقه إلى كشفها، وكيف يكون طريقه في إثبات صدقها؟ لا، إن للبحث العلمي قواعده الملزمة، دون أن تكون تلك القواعد حائلا دون نبوغ النابغين. وهل هذا نفسه في لعبة الكرة وفي غيرها؟ فلها قواعدها التي يحكم على أساسها، دون أن تكون تلك القواعد عائقا يعوق المهارات عن الظهور.
فلماذا يريد الشاعر أن يكون شاعرا، والمصور مصورا، والنحات نحاتا، بغير مجموعة من قواعد فنه لتحكمه ولتمكن نقاده من الحكم عليه؟ وكما أسلفت القول: إنه يجوز - بلا جدال - أن تحطم تلك القواعد في أعقاب الحروب الكبرى والثورات الجارفة؛ لأن كل شيء في الحياة عندئذ يصيبه التحول كثيرا أو قليلا. ولكن الخارجين على تلك القواعد، إنما يخرجون عليها ليحلوا غيرها مكانها؛ لاستحالة أن يجيد الكاتب أو الفنان، ما لم يكن سيره على نهج، وذلك هو قواعد فنه.
صفحه نامشخص