وكنت قبيل مغادرتي القاهرة بنحو ثلاثة أسابيع، قد شاركت في مشروع أدبي خططت له لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهو إخراج سلسلة تتعقب الفكر الحديث في أبرز معالمه. وتم اختيارنا للكتب التي أردنا لها أن تصاغ في عبارة عربية دون أن نلتزم الترجمة الحرفية. وكان نصيبي من ذلك المشروع كتابا في النقد الأدبي من تأليف ه. ب. تشارلتن، هو الذي جعلت عنوانه العربي «فنون الأدب». ولقد ألقيت على نفسي - باختياري - مهمة شاقة؛ هي أن أختار لمادة الكتاب أمثلة من الأدب العربي، بدل الأمثلة التي ساقها مؤلف الكتاب من الأدب الإنجليزي؛ إذ إن هذه الأمثلة الإنجليزية لو ترجمت إلى العربية فقدت الجوانب التي سيقت من أجل توضيحها، وأحمد الله على توفيقه؛ فقد جاء الكتاب آخر الأمر في صورته العربية وكأنه تأليف عربي أصيل.
كان لا بد لي من مضاعفة جهدي لأفرغ من الكتاب في أسابيع قليلة قبل السفر، وذلك ما قد كان، اللهم إلا المقدمة، التي لم يكن قد بقي لها - على قصرها الشديد - من وقتي ساعة واحدة. وبينما نحن نعبر البحر في قافلة السفن، قيل لنا إن للركاب أن يكتبوا ما شاءوا من رسائل لذويهم، على أن تسلم أوراقا مكشوفة؛ لأنها ستطبع على ميكروفلم لترسل مئات الرسائل معا في بكرة واحدة، وهناك في جهة الوصول، تفصل الرسائل بعضها عن بعض، وتكبر، وتعطى لأصحابها، فكتبت - فيما كتبت - مقدمة كتاب «فنون الأدب»، وأرسلتها إلى لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة.
كان الأستاذ أحمد أمين قد قالي لي ذات يوم، عندما رأى مقدار ما أنتجه في وقت وجيز: إنك لو كنت من الجن، لاستكثرت عليك هذا الإنتاج كله في مثل هذه الأيام القليلة! فماذا عساه قائلا لو رآني وأنا في لندن ملتحقا بجامعتها، مصمما على أن أعب البحر في أعوام قلائل؟ أتدري كم ساعة كنت أقضيها في مكتبة الجامعة، لا أتحرك من مقعدي؟ كنت أول طالب يدخل المكتبة صباحا عند فتح أبوابها - بالمعنى الحرفي لهذه العبارة - وآخر من يغادر المكتبة مساء عندما تغلق أبوابها، بالمعنى الحرفي مرة أخرى. وما زلت أذكر طالبا إنجليزيا كان يعد هو الآخر رسالته للدكتوراه في الفلسفة، فسألني يوما: كيف تستطيع التركيز العقلي طوال هذه الساعات التي أراك فيها مشدودا إلى مقعدك في المكتبة؟ إنني أخرج وأغيب ثم أعود، لأجدك ما زلت في جلستك غارقا فيما يشبه الغيبوبة، وأنا أسألك: كيف تستطيع؟ ... كما أذكر أيضا طالبا هنديا صادفني في نادي الطلبة خلال عطلة الأسبوع، فما رآني حتى جمد في مكانه قائلا بعد صمت قليل: أهو أنت؟ إنك لا تعلم كيف أشقيتني! قلت: أنا أشقيتك؟ كيف كان ذلك ومتى؟ قال: إنك تكبرني سنا، وكنت كلما أخذ مني التعب في المكتبة وأهم بالرحيل، أنظر خلفي فأراك جالسا إلى كتبك لا تكاد تلتقط أنفاسك، فأقول لنفسي: اجلس وامض في عملك؛ فالذي مكن هذا الرجل من مواصلة العمل يجب أن يمكنني، ثم أواصل العمل حتى تنهد قواي هدا، وأنت ما زلت جالسا، فأغادر المكتبة وأنا أصب عليك اللعنات!
كتمت الجواب في صدري، ولو أفصحت عنه لقلت: إنها لذة المحروم، وقد تحقق له أمل ظنه بعيد المنال.
دكتوراه في الفلسفة
كانت الكلية التي سجلت فيها للحصول على إجازة الدكتوراه في الفلسفة، هي ما يسمى بكلية الملك في جامعة لندن. وكان المشرف على عملي هو الدكتور هاليت، وهو رجل من طراز فريد؛ فمجال اختصاصه الذي تميز به في الجامعات البريطانية كلها، هو إسبينوزا وفلسفته. وكانت طريقته في البحث والنظر تذكرني بأعتى شيوخ الأزهر السابقين، الذين لم تكن تبهرهم الأضواء الحديثة بقدر ما يؤرقهم الإخلاص الشديد لمادة البحث بين أيديهم، كذلك الباحث القديم الذي قيل عنه إنه أخذ يبحث في كلمة «حتى» من جميع وجوهها النحوية، ومع ذلك فلم يشعر بأنه قد استوفى بحثه بصورة ترضيه، فقال ما معناه إنه سيموت وفي نفسه شيء من «حتى»! ومن هذا الطراز العجيب كان الدكتور هاليت؛ فهو أستاذ أكاديمي عتيد عنيد بحاثة دقيق دءوب في روح من الهدوء والبساطة يلفتان النظر.
وكان الموضوع الذي أردت بحثه هو «الجبر الذاتي»، قاصدا بذلك حرية الإنسان في تقرير مصيره، بغض النظر عن العوامل الخارجية المحيطة به. وكنت إذ ذاك مشبعا بمزيج من فلسفات برجسون والبرجماتية والوجودية، مختلطا بعضها ببعض في وجهة نظر واحدة. ولم يكن بيني وبين الأستاذ هاليت اتفاق في وجهة النظر، لكن الأمر في البحث الجامعي ليس أمر نظر خاص ووجهته، بل هو أمر نصوص وكيف تستخرج منها النتائج ويستشهد بها. ولقد أخذت من ذلك الرجل أعظم فائدة يمكن أن يفيدها طالب من أستاذه؛ لأنه كان يرهف لي عقله كله، ليلتقط ما عسى أن يكون في عبارتي من مآخذ وثقوب. وكنت بدوري أعد نفسي قبل لقائه أجود إعداد، لأقترب من مستواه في النقد ورد النقد. وإني لأشهد الله بأني قد خرجت آخر الأمر شخصا آخر غير الذي كان عند دخوله، من حيث يقظة الوعي ودقة العبارة.
وبينما أنا غارق إلى الأذنين في بحثي عن «الجبر الذاتي»، إذا بالنبأ يشيع بأن «الكلية الجامعة» - وهي الكلية التي حصلت منها على درجة البكالوريوس الشرقية من الدرجة الأولى - قد جاءت بأستاذ باحث ليتولى رئاسة قسم الفلسفة بها، هو الدكتور آير. ووفق التقاليد الجامعية هناك كان لا بد لهذا الأستاذ الجديد أن يلقي محاضرة عامة في ميدان تخصصه لتكون بمثابة الإعلان عن بدء اضطلاعه بمنصبه.
واستعدادا لحضور تلك المحاضرة العامة، جمعت من مكتبة الجامعة الرئيسية مؤلفات آير هذا، لألم بفكره واتجاهاته قبل أن أراه. وكان بين مؤلفاته تلك كتاب صغير عنوانه: اللغة والحقيقة والمنطق، يعرض فيه بكل قوة ووضوح، اتجاها جديدا لجماعة من فلاسفة العلوم، ظهرت أول الأمر في مدينة فينا بالنمسا، ثم انتشرت في أجزاء من أوروبا وأمريكا، وكانت تسمي اتجاهها ذاك باسم «الوضعية المنطقية»، قاصدة بهذه التسمية أنها أولا تساير المذهب الوضعي الذي أشاعه قبل ذلك أوجست كونت في فرنسا، والذي خلاصته أن النظرة العلمية تحدد نفسها بالظواهر كما تظهر، وأما ما وراء تلك الظواهر مما يخفى على المشاهدة والتجربة فلا يدخل في مجال التفكير العلمي، اللهم إلا إذا كان مستدلا استدلالا سليما من التجارب والمشاهدات. وثانيا أضافت تلك الجماعة جانبا آخر إلى ما سبقهم به أوجست كونت، وهو أنه لا داعي للأشياء نفسها الموجودة في الطبيعة، لتعلم إن كانت جملة من الجمل التي يقولها الناس هي مما يمكن أن يندرج في مجال العلوم أو لا يندرج؛ إذ يكفي في ذلك أن تحلل ألفاظ الجملة - موضوع النظر - وطريقة تركيبها، لتعرف إن كانت صالحة لأن تكون جزءا من علم وضعي أو غير صالحة؛ ومن ثم فقد أطلق على هذا الاتجاه الجديد اسم الوضعية المنطقية؛ لاكتفائه بالتحليل المنطقي للعبارات اللغوية، في قبول ما يصلح للعلم ورفض ما لا يصلح.
وما زلت أذكر تلك اللحظة التي لمعت عندها في رأسي تلك اللمعة المضيئة، التي خيل لي معها أن غطاء قد انكشف أمامي عن حقيقة كانت مخبوءة عني، وتلك هي أن اللغة حاجز يقف بين الإنسان والأشياء، ولا سبيل إلى اختراق هذا الحاجز اللغوي لرؤية الطبيعة على حقيقتها، وإذن فلا بد من تحليل تلك اللغة تحليلا يميز فيها بين ما هو علم مما ليس علما. وفي هذه الحالة يكون عمل الفيلسوف أشبه بعمل الخبير بالنقود، يعرف كيف يميز في قطع النقود بين الحقيقي منها والمزور.
صفحه نامشخص