تصاممت عن ناعيك حتى أربته ... ودافعت فيك القول من كل مدفع
ولما أبى إلا يقينا حديثه ... فزعت إلى جفن من الدمع مترع
فأي حسام حالت الأرض دونه ... وكان متى يضرب به الخطب يقطع
وهذا الحد فالمملوك يقف عنده، ثم يعطش قلمه بعده، لما يلزم في باب المصاب إذا رمته الليالي وراء ظهرها، وأبعدت الأيام عهده بمرها، من الاكتفاء من القول بيسيره، والاستغناء عن كثيره بقليله، كراهية لتجديد الحزن وتطريته، وإشفاقا من تشييد ما يجب الحرص على تعفيته ولاسيما هذا الفادح الذي نبه خامل الثرى. ومنع الجفون من مصافحة الكرى، وأحزن مليك الأرض وسلطان الورى:
وتر الردى من لو تناول سيفه ... يوما لنال من الردى ما شاء
وهذا الخطب وإن رمى العقول بالخبل، وعم بالغم أهل السهل والجبل، ولم يسلم أحد فيه من رزء، ولا خلا من الأخذ منه بأوفر جزء؛ فالذي يسهل صعبه، وينفس كربه، ويسيغ صابه، ويخفف أوصابه، أن مالكنا - خلد الله دولته - مكفوف بالحماية، مشمول بالوقاية، محفوظ بعناية الله وكفايته، مخصوص بإطالة العمر وإطابته، جار على عادته في تدبير مملكته، وكلاءة رعيته، وإعزاز دين الله - تعالى - ونصرته. والله - تعالى - يجعل منتقص المدد زيادة في مدته، ولا يخلي البسيطة من رواء سلطانه وبهجته. بفضله وطوله، وحوله، وقدرته.
قال الشيخ أبو القاسم المصنف: كنت أنفذت نسخة هذه الرسالة إلى بعض الرؤساء الكبراء ممن كان يؤثر الوقوف على ما أعمله، فبلغني أن كاتبه قال لما رأى ترجمة هذه الرسالة قبل الوقوف عليها: هلا قال: الغلوة في السلوة وأنكر التدلي، فكتبت إليه: بلغ عبد الحضرة ما انتقد عليه في ترجمة ما خدم به. وما استبعد من التدلي العائد بدنو النائي وتقربه، وقد كان يجب أن يبقى على من عمل عجلا، وترجم مرتجلا، ولم تكن له مهلة لتنقيح ألفاظه وتهذيبها، وإبرازها في معارض تستحسنها النقدة وتهذي بها، وإن بعض من انتقد عليه قال: هلا كانت الترجمة: الغلوة في السلوة؟ وعبدها يقول: أما الغلوة فهي: المرماة، والمغلاة: السهم، فالغلوة: غايته، وهذا ضد مراده؛ وذلك أن التدلي إنما هو التوصل؛ تدليت على الشيء إذا توصلت إليه. ومنه أدلى فلان بحجته إذا توصل بما أتى به إلى بغيته، ومن ذلك قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى) وهذه الآية من باب قوله سبحانه: (ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) . وهو من المقلوب. أي: تنوء بها العصبة أولو القوة و: ثم تدلى فدنا.
وقد قال الشاعر:
لا تقلواها وادلواها دلوا ... إن مع اليوم أخاه غ (دوا)
وتقلواها: تبعداها، وادلواها: قرباها والدلو من هذا؛ لأنها تقرب الماء بعد بعده.
فقول عبدها: التدلي على التسلي إنما معناه: التوصل إلى السلوة بأسبابها من التاسي، وطلب الثواب، وغير ذلك.
وقول من قال: الغلوة في السلوة، إنما هو الوصول إلى غايته، والفرق بين من قصد التوصل، وبين من بلغ الغاية لا يخفى عن أحد، فقد بان تضاد الترجمتين، وتنافي الغرضين، وما ضر من انتقد لو صبر إلى أن يقف على الرسالة، ثم يقول ما يختار، ولا يعجل بأن يضع مني ما صدر عني، فالله المستعان وصبر جميل.
قال الشيخ أبو القاسم: كانت وفاة الأجل المظفر ﵁ يوم الخميس تاسع جمادى الأولى من سنة أربع عشرة وخمس مائة، وكانت ولادته في سنة تسع وسبعين وأربع مائة.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله الطاهرين، وسلم تسليما، حسبنا الله ونعم الوكيل.
١ ١
1 / 59