لم يستحق الدهر كونكما معا ... فيه فعوض قاطنا بمودع
والله يجعل كل الأعمار زيادة في مدته وعمره، ويجيب فيه ما يرفعه الحريص في سره وجهره. بكرمه، وطوله، وقدرته وفضله.
ولما كانت خدمة مجلسه العالي - ثبت الله سلطانه - فرضا على عبيد مملكته، وحقا لا عذر في التخلف عن تأديته، وقد صنع شعراء المقام الأشرف - ضاعف الله سعوده، ونصر أحزابه وجنوده - في هذا الباب ما أربوا فيه على من سبقهم، وآيسوا غيرهم من أن يلحقهم؛ بادر المملوك بهذه الخدمة، وأنشأ ما يأتي ذكره في هذه الحادثة الملمة على ما هو عليه من الحال التي ضلت معها العقول، وحجزت الأحزان فيها بين القائل والمقول.
والذي صنعه المملوك: إن كان الدهر قد فجئ بفادح المصيبة، ورمى بسهامه المصمية المصيبة، وبالغ في الفجيعة الفظيعة، وسعى بين الأرواح والأجسام بالفراق والقطيعة، وطرق من المصاب بالأجل المظفر - كرم الله مثواه - بما منع الطرف وسنه، وفتح من الصبر مستحسنه؛ فما حكم مداه إلا في مفاصله، ولا مكن ظباه إلا من مقاتله، ولا سطا إلا على قمره المنير فأخفاه، ولا عدا إلا على رونقه المونق فطمسه وعفاه:
إن خان فيه الدهر عندي إنما ... في نقصه وعلى محاسنه سعى
في كل يوم عثرة من صرفه ... لا تستقال بأن يقال لها: لعا
فيا لله! ما أعجب فعله، وأبين جهله، وأقبح إساءته إلى نفسه، وأشنع سواد يومه بعد بياض أمسه:
يوم أظل بغمة لا يشتفي ... فيها الهدى وبغمة لا تنجلي
وأعجب من ذلك انطلاق الأيدي بعده - شرف الله ضريحه - بتحقيق خبر فقده، والإقدام على التعزية عنه وقد عدمت العقول من بعده، فوا لهفاه على مضيه وذهابه! ووا أسفاه على ما فعله الدهر، ودهى به! ووا حسرتاه! ما أمر العيش لما مر! ووا حرباه! لقد أساء القدر فيه بعدما سر:
لئن حسنت فيه المراثي وذكرها ... لقد حسنت
من قبل
فيه المدائح
ولله مطيع بن إياس في قوله:
يا أهل، بكوا لقلبي القرح ... وللدموع الهوامل السفح
يا خير من يحسن البكاء له ال ... يوم وإن كان أمس للمدح
ومع هذه الحال فليس إلا التسليم والرضى، والتقبل لما حكم الله به وقضى، والتصبر وإن كان عمن لا تجد النفوس منه عوضا. على أن النعمة بالمقام الأعظم المالكي - ثبت الله سلطانه - قد ألانت قلوبا على الدهر قاسية، والموهبة في امتداد ظله قد غدت مصلحة لهذا الكلم آسية:
صبرنا على حكم الزمان الذي سطا ... على أنه لولاك لم يمكن الصبر
عرانا ببؤسى لا يماثلها الأسى ... وإنك نعم لا يقوم بها الشكر
فأوجبت الأولى الملام فلم يلم ... وأنى له لوم وأنت له عذر!
فالحمد لله الذي جعل المقام المالكي الأفضلي مستقيما للذماء، مجددا ملابس النعماء، مستقرة به الرأفة في الأرض كما استقرت الأدعية في السماء، وضاعف الله للأمة بتخليد ملكه ضروب المنن، وجعله من حوادث الدهر في أمنع المعاقل وأحصن الجنن. بمنه، وطوله، وقدرته، وحوله.
والمملوك يتبع ذلك بلمعة من أحسن ما يرويه للمتأخرين في باب التعازي نظما ونثرا. على أن منها ما يلهب في الضلوع نارا، ثم يستخرجها من العيون أدمعا غزارا:
يا عجبا من حرقات الجوى ... تصعد نيرانا وتجري مياه!
والناس - وإن رغبوا في التسلي، وحثوا على حسن التعزي؛ عالمون أن في إفاضة الكئيب لدمعته ما يذهب من لوعته، وفي إرساله لعبرته ما يعينه على سلوته.
يروى عن سليمان بن عبد الملك أنه قال - عند موت ابنه أيوب - لعمر بن عبد العزيز ورجاء بن حيوة: إني لأجد في كبدي جمرة لا تطفئها إلا عبرة، فقال عمر: اذكر الله يا أمير المؤمنين، وعليك بالصبر. فنظر إلى رجاء بن حيوة - كالمستريح إلى مشورته - فقال رجاء: أفضها يا أمير المؤمنين فما بذاك من بأس؛ فقد دمعت عينا رسول الله ﷺ على ابنه إبراهيم، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون. فأرسل سليمان عينه فبكى حتى قضى أربا، ثم أقبل عليهما، فقال: لو لم أنزف هذه العبرة لانصدعت كبدي. ثم لم يبك بعدها، لكنه لما دفنه، وحثا عليه التراب قال: يا غلام، دابتي، ثم التفت إلى قبره، فقال متمثلا:
1 / 55