وقال: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم وقال: (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) وجاء في الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا كان يوم القيامة ينادي مناد ألا فليقم من كان أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا) وعنه ﷺ أنه قال: (لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم) وما أحسن قول بعض الزهاد: إن الله ﷿ أمر بالعفو، وهو لا يكون عن البريء، وإنما يكون عن المذنب المسيء. ألم تسمع إلى قول الله تعالى: (وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم) فو الله ما قال: على إحسانهم، ولا على عدلهم.
الحسن بن هانئ وهو آخر شعر قاله:
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة ... فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن ... فمن الذي يرجو ويدعو المجرم؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا ... فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
ما لي إليك وسيلة إلا الرجا ... وعظيم عفوك ثم أني مسلم
حكي عن بعض ملوك العجم أنه أتى بأسير عظيم الجرم، فقال له: لو كان هواي في العفو عنك لخالفته إلى قتلك ولكن لما كان هواي في قتلك خالفته إلى العفو عنك. وعفا عنه. فمن بركة العفو أنه صرف هذا الملك عن موافقة هواه، وعدل به إلى متابعة هداه وتقواه.
ذكر أن أحد خدم الملوك قال له يومًا: إني لأتعمد الخطأ في خدمتك، وليس ذاك جهلًا بشرف طاعتك، (فقال: وما يحملك على ذاك؟ فقال رأيتك شديد السرور) إذا عفوت، فقصدت ما يؤدي إلى مسرتك. ومن ها هنا أخذ ابن القمي قوله:
وعبدك إن يأت الذنوب فإنما ... تعمد أن يهفو لأن تتغمدا
وكان أبو محمد الخازن قد بعد عن الصاحب وفارق خدمته، ثم عاد إليه، فتلقاه بالترحيب، وجعل إقالته العثرة سالمة من اللوم والتثريب، فكتب إلى أبي بكر الخوارزمي كتابًا منه: ولقد كنت أحسب العفو عني حلمًا ولا أقدر ما جنيت يعقب حلما، فكأني ما خطوت إلا في التماس قربة، ولا أخطأت إلا لتأثيل إيثار ومحبة.
ولما وصل الفتكين الشرابي غلام معز الدولة أبي الحسين أحمد بن بويه إلى الشام في خلافة العزيز بالله ﵇، وسيرت العساكر إليه تقرر الصلح بينه وبني القائد جوهر على أن ينادي بشعار الدولة ثم نقض ذلك، ولم يزل يقرره ثم ينقضه، حتى خرج العزيز بالله ﵇ إليه، وتولى قتاله بنفسه بعد أن أبى ما أعطاه من الأمان، وبذل له من الإحسان. فلما ظفر به ضرب له فازة، وأمر بأن تحمل إليه أنفس الفرش والألات، ورد إليه كل ما عرفه من المنهوب له، وكان جماعة قد أشاروا بأن يشهر على الفيل، وبأن يجعل في قفص، فأبت خلائقه إلا عفوا، وموارد كرمه إلا صفوا. ويقال إنه أنفق في توبته إلى أن حصل في قبضته ألفي ألف دينار.
وحكى بعض البغداديين قال: كنت ببغداد في سنة ثمان وستين وثلاث مئة حين ورد كتاب أحد التجار بما فعله العزيز بالفتكين، فوقعت ضجة، واجتمع خلق لا تحصى، ورفعوا أصواتهم بالدعاء له، وخرجوا إلى مسجد براثا يدعون، وأظهر الشيعة ما في نفوسهم من الولاء فما أمكن الملك فناخسرو إنكار ذلك لكثرة الناس. قال أبو الفتح بن المقدر المتكلم: استدعى الصاحب أبو القاسم في بعض الأيام شراب السكر، فأحضر قدح منه، فلما أراد أن يشربه قال له أحد خواصه: لا تشربه، فإنه مسموم. وكان الغلام الذي ناوله إياه واقفًا، فقال للرجل المحذر له منه: وما الشاهد على صحة قولك؟ قال: أن تجربه على من أعطاكه، فقال: لا أستحسن ذاك ولا أستحله. قال: فعلى دجاجة. قال: إن التمثيل بالحيوان لا يجوز. ورد القدح، وأمر بأن يقلب ما فيه، وقال للغلام: انصرف عني، ولا تدخل داري. وأمر بإقرار جاريه وجرايته عليه، وقال: لا يدفع اليقين بالشك، ولا تحسن العقوبة بقطع الرزق.
ابن حيوس:
لعمري لقد بذَّ الملوك جميعهم ... بأربعة في غيره لن تألفا
بأمن لم يخشى، وقهر لمن طغى ... وسبق لمن جارى، وعفو لمن هفا
ملي بأن يأتي الجميل خليقة ... إذا ما أتاه المحسنون تكلفا
إبراهيم بن المهدي:
لغفوت عما لم يكن عن مثله ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
إلا العلو عن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
ورحمت أطفالًا كأفراخ القطا ... وحنين وآلهة كقوس النازع
أبو سعيد الرستمي:
1 / 5