عذرا إليه فإننا من عجزنا ... وقصورنا عن مدحه نستغفر
وهذه الفصول أنموذج في وصف مناقبه كاف، وسبيل إلى نشر فضائله غير عاف ولا خاف، والمملوك يقف عند هذا الحد، ويقنع بما أورده مما قد أمن فيه من الرد، ويشفع ذلك من الملح بما يسنح، ويتبعه بما يميل القلب إلى مثله ويجنح، وهو وإن أورد منه ما نزر وقل، فقد نبه به على نظائره ودل، والله يعينه من الخدمة الشريفة على ما تضمره نفسه وتنويه، ويقضي له من الحظ بما يكسبه جزءا من إشادة وتنويه، بجوده، ومجده، وكرمه وفضله.
من فضائل الملوك التي ذكرت إيماء لكثرتها واتساع فنونها، ولأن التخفيف والاختصار من شروط هذه الخدمة وقوانينها
وذلك نوع إذا استشفت ضروبه، وتؤملت أساليبه؛ كان سهم مولانا الملك منها السهم المعلى، وألفي كل مدح في حقه مستنزرا مستقلا، ولو لم يكن له من المناقب التي فضل بها وفاق، وملأ ذكرها ووصفها الآفاق، إلا أنه قوم الزمان لما مال وانحرف، وفعل في تعديله ما أقر به الجاحد واعترف، فوفق بين سنة الشمس وسنة القمر، وأبان عن صحة الفكر ودقة النظر، وكانت مسافة بعدهما منافرة للعادة، ومدة تفاوتهما ثلاث سنين وهي إلى الزيادة، فدبر ذلك على حسب سيرته العادلة، وسنته الحسنة، وجعل مقدار هذا التباين مأمونا فيهما إلى مائة سنة، وأمر - أعلى الله أمره - بما أنشئ في هذا المعنى مما تولى - خلد الله ملكه - تهذيبه، وقصد إيصاله إلى الأفهام وتقريبه، وقرئ على جميع منابر المملكة، فعلم الكافة ما فيه من عموم النفع وشمول البركة، وذلك مما عجز عنه الوزراء الذين هذا الفن صناعتهم، والتصرف في الكتابة عمدتهم وبضاعتهم، فما يتنافسون إلا في طلابها، ولا يتوسلون إلى الرئاسة إلا بها. وهو - ثبت الله دولته - فهي أيسر حسناته، وأقل آلاته وأدواته، وفضيلته فيها فضلة على ما هو أعلى منها وأشرف، وعلومه شاهدة أنه أنفذ من مدرسيها وأعرف.
ولقد حكى الزعيم أبو العلاء (ثقة الملك) صاعد بن مفرج أن أماثل متولي الدواوين اجتمعوا عند بعض الوزراء في سنة نيف وثلاثين، وتفاوضوا في نقل السنة الخراجية إلى الهلالية، وقصدوا ما رفع اللبس وأزاله، ووسعوا القول رغبة في إيضاح المعنى له، فقال: ما أوثر أن يجري هذا في أيامي ولا نظري، فو الله ما وصل إلى فهمي، ولا علق بتصوري، وهذا يكون على يد غيري، ويخبأ لمن يأتي بعدي. فأمسكوا عنه، وخرجوا من عنده وبقي ذلك مهملا إلى سنة خمس مائة لأن الله تعالى ذخر الفضيلة فيه لمولانا الملك الذي أسبغ النعم العميمة، وأولى المنح الجسيمة، ولم يكتف بالإحسان إلى كافة البرية حتى لاءم بين السنة الشمسية والسنة القمرية.
فالله تعالى يديم بهجة الدنيا بامتداد ظله، ويلهم أهلها ما يستوجبون به سبوغ عدله، ويجعل القلوب على طاعته متفقة، كما تألفت عنده الفضائل التي غدت في الناس مفترقة.
لا غرو إن كان فيه الفضل مجتمعا ... والفضل مفترق في (سائر الأمم)
فأحرف الخط يحوى الطرس جملتها ... وقد تفرع منها سائر الكلم
ولا زالت الأمة في شكره قاضية دين، وإحسانه متجددا أبدا على الجديدين. فأما إرشاده للمستخدمين، وإيفاؤه على ملوك الأرض المتأخرين والمتقدمين؛ فيكفي من ذلك ما شاع واشتهر، ويقنع منه ما بهر مذ ظهر، ولا خلاف أنه يهدي الحكام في المشكلات إذا نزلت، ويشجعهم في القضاء إذا ضعفت القوى وانخزلت، ويرسم للكتاب ما يعتمدونه في المستبهمات إذا عرت، ويوضح لهم طرق المعالي إذا صعبت وتوعرت، فأدام الله ظله على هذا الخلق، وأجاب فيه دعاء أهل الغرب والشرق، بكرمه وفضله وجوده، ومجده.
يحكى أن الصاحب أنشد عضد الدولة فناخسروا قصيدته المعروفة باللاكنية لكثرة ما كرر فيها (لكن) وأولها:
أشبب لكن بالمعالي أشبب ... وأنسب لكن بالمفاخر أنسب
ولي صبوة لكن إلى حضرة العلا ... وبي ظمأ لكن من العز أشرب
فلما انتهى إلى قوله:
ضممت على أبناء تغلب ثأيها ... فتغلب
ماكر الجديدان
تغلب
قال عضد الدولة: يكفي الله كراهية لقوله: تغلب! والصاحب لم يتيقظ لهذا النقد مع أنه لا يصح في هذه اللفظة إلا بتغييرين: ضمة التاء، وفتح اللام، وإنما ذكر أحدهما.
1 / 46