ولما أهل شهر رمضان على المقام العالي المالكي السيدي الأجلي الأفضلي الجيوشي، سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام الله قدرته، وأعلى كلمته، مؤذنا باتساع قدرة تخدمها الأفلاك، ومبشرا بانفساح مدة تخضع لها الأملاك، وكانت الحضرة العالية المالكة - ثبت الله دولتها، ونصر ألويتها - مخصوصة بالتوفر على الخير والبر، حريصة على الطاعات في الجهر والسر، متحققة أنها الأفعال التي يتقرب بها إلى الله تعالى ويتوصل، والذرائع التي يتحرم بها عنده ويتوسل، والدواعي إلى الثواب الجزيل في العاجلة والعقبى، والمساعي التي من لزمها كان الله حزبا وللشيطان حربا، وقد علمت - خلد الله ملكها، وأدام في أعداء الدين فتكها - أن المجتهدين في الأدعية اثنان: إما سالك في ابتهاله مسلك الطالب الراغب، أو معدد في مناجاته ما لله عنده من المنائح والمواهب، ولا خلاف أن من عدد الإنعام أفضل ممن طلبه، ومن اعترف بالإحسان أشرف ممن رامه وخطبه، وأنه لا حجة لها على الله ﷿ لأنه استخلفها على البسيطة لما كانت أفضل الخلق، وارتضاها لتدبير الخليقة لما هي عليه من العمل بالعدل، والحكم بالحق، وانتضاها محامية عن دينه الحنيف وتوحيده، وشرف اعترافها عن عدول الجاحد ومحيده، فأولى ما ناجته به وصف نعمه التي لا تحصى بعدد، وشرح منحه التي يلزمها ذكرها دون كل أحد، لأنها محظورة على كافة أهل الأرض؛ والناطقين فيها، ومحرمة أن يتفوه بها بشر إلا أن يكون إيرادها من شريف فيها. فلذلك خدم المملوك بهذه المناجاة التي عظم بها القدر عند الله تعالى والجاه، وجعلها مشتملة على تعديد النعمة، واستمطار الكرم والرحمة، والله تعالى يمد عليه ظل مالكه، وينهضه بخدمته، ويديم على الدنيا والدين عز سلطانه، وبهجة دولته، بفضله، وطوله، وحوله، وقدرته.
وهذا ابتداء المناجاة
رب! قد آتيتني من الملك.
اللهم إنك قد فضلتني على بريتك، ونصبتني لتدبير خليقتك، وارتضيتني محاميا عن كلمة توحيدك، وعرضتني بذلك لمضاعفتك النعمة عندي ومزيدك، وخصصتني بما لم ينله ملك في قديم الإسلام ولا حديثه، وجعلتني ممن يتفق كل ناطق في وصفه - جل قوله - وحديثه، وعصمتني أن أجحد نعمك وأكفرها، وألهمتني أن أهب الجرائم وأغفرها، ما لم يكن ذلك حائلا عن إقامة الحدود، أو حاجزا عن الانتقام من أهل الشقاق والمردود.
اللهم إنك قد حفظت بي من الدين القيم ما أضاعه ملوك الوقت، وجعلت ذلك قاضيا لي بالمحبة وحاكما عليهم بالمقت، وحبوتني من الكافة بصفاء الضمائر وخلوصها، وساويت بين سرائرهم في عموم مشايعتي وخصوصها.
اللهم إنه قد أشرف هذا الشهر الشريف الذي فضلته على جميع الشهور، وميزته في متقادم الأزمنة والدهور، وعظمته بما أنزلته في ذكره ووصفه؛ فقلت في كتابك الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) .
وجعلت فيه ليلة القدر التي لم تزل أعمال من أحياها إليك صاعدة، والمخصوصة بنزول القرآن إلى سماء الدنيا فيها جملة واحدة.
اللهم فأعين على صيامه وقنوته، وأنهضني بما يجب له في أحيان ذلك ومواقيته، ووفقني لما يرضيك من عمل نهاره وليله، وأذهب عني رجز الشيطان الذي يجلب على المؤمن برجله وخيله، واجعل نصيبي من ثوابه كمنزلتي من اصطفائك، وحظي من أجره أجزل حظ مننت به على عبيدك وأوليائك.
اللهم إنك أعلم بمصالحي مني، وإن أيسر جزء من إحسانك يتجاوز غاية التمني، فبحرمة ما تعلمه من باطني وسريرتي، وما تطلع عليه من صحة عقيدتي وطهارة نيتي، وما ألهمتني إياه من بث العدل في الرعية، والعمل بمرضاتك في هذه البرية؛ إلا مددت في عمري وأصحبتني التأييد في جميع أمري، وجمعت لي الحُسنيين في القول والعمل، وبلغتني في طاعتك غاية المطلوب والأمل.
اللهم واقض لي أن يكون هذا الشرع الشريف محروس النظام بي، واجعل حمايته في عقبي كما كانت من قبل من أبي.
اللهم وامددني من الحظوظ الملكوتية والسعود اللاهوتية بما أمددت به أنبياءك الذين حكمت بعزتهم، وحتمت بقوتهم، وقضيت بانتشار دعوتهم، وتأذنت بظهورهم وإعلاء كلمتهم.
1 / 43