وحكي عنه أنه تعشق صبيا أعور فقال فيه:
له عين أصابت كل عين ... وعين قد أصابتها العيون
قال بعض الفضلاء: أظنه قال هذا الشعر لما اعتن معناه في نفسه، ثم طلب أعور يعشقه ليجعله معرضا لقوله، فقد هون بفصاحته المستكره، وحسن ببلاغته المستقبح.
ومن أحسن ما جاء في ذلك ما ذكره التميمي في سيرة الحجاج من أن عبد الملك بن مروان أمر بعمل باب في بيت المقدس يكتب عليه اسمه، فسأله، الحجاج أن يأذن له في عمل باب أيضا، فأذن له، واتفق أن وقعت صاعقة احترق فيها باب عبد الملك، وسلم باب الحجاج، فعظم ذلك على عبد الملك فكتب الحجاج إليه: بلغني أن نارا نزلت من السماء فأحرقت باب أمير المؤمنين، ولم تحرق باب الحجاج، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر! فسري عنه لما وقف على الكتاب.
وكان طاهر بن الحسين وهو في قتال المخلوع قد جعل دراهم للصدقة في كمه، ونسيها، فأسبله، فتبددت الدراهم - وهو لا يعلم - فلما ذكرها تطير من ذلك، فأنشده أحد الشعراء:
هذا تبدد جمعهم لا غيره ... وذهابها عنكم ذهاب الغم
شيء يكون الهم نصف حروفه ... لا خير في إماكه في الكم!
وذكر المملوك بالبيت الثاني قول محمد بن أبي سعيد؛ أحد المحدثين:
ألا رب شيء فيه من أحرف اسمه ... نواه لنا عنه وزجز وإنذار
فتنا بدينار وهمنا بدرهم ... وآخر ذا هم، وآخر ذا نار
وكان خالد بن يزيد بن مزيد تقلد الموصل في أيام المأمون، فلما دخلها مر بأول درب منها اندق اللواء، فاغتم لذلك، وعظم عليه، فقال مروان بن محمد المعروف بأبي الشمقمق بديها:
ما كان مندق اللواء لريبة ... تخشى، ولا صرف يكون معجلا
لكن هذا الرمح ضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا!
فكتب صاحب البريد يخبره إلى المأمون، فزاده المأمون ديار ربيعة، وكتب إليه: هذا لتضعيف الموصل متن لوائك، فأعطى خالد أبا الشمقمق عشرة آلاف منهم وشخص إلى ديار ربيعة.
فقوة البراعة حكمت بالاقتدار على مدح ما عادته أن يذم، وجودة العبارة ختمت باستحسان ذم ما عادته أن يمدح، كما قال عبد الله بن التوأم يذم النخلة التي طاب جناها، وزاد نفعها وتناهى: إنها صعبة المرتقى، مهولة المجتنى، بعيدة المهوى، حسنة المس، قليلة الظل.
وكما حكي عن سهل بن هرون من أنه عمل كتابا يمدح فيه البخل، ويذم الجود، ليري بلاغته، وطول لسانه، وأهداه إلى الحسن بن سهل. إلا أن الحسن وقع عليه: لقد مدحت ما ذمه الله، وحسنت ما قبحه الله، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا ثوابك عليه قبول قوله فيه. ولم يعطه شيئا.
وقد اعتمد جماعة من البلغاء مدح الشيء وذمه إظهارا لاقتدارهم، وإبانة عن محلهم ومقدارهم، وعملا بقول القائل: ما من شيء إلا وله وجهان؛ فالمادح يذكر أحسنهما، والذام يذكر أقبحهما.
وقد روي عن عيسى ﵇ أنه مر هو وأصحابه على كلب ميت فقال بعضهم: ما أنتن ريحه، فقال عيسى ﵇: ما أشد بياض أسنانه. فسلم لعائبه ما ادعاه من مساوئه، وذكر من محاسنه ما لم ينازعه فيه.
والمملوك يقول: إن من أبدع الكلام قول الحكيم: لا عشت ليوم أمدح فيه ما ذممته، ولا أذم فيه ما مدحته؛ ذلك يوم ظفر الهوى بالرأي.
ومما يلحق بهذا الباب
أن يأتي ذم لا تكون المبالغة فيه إلا باللفظ الذي يكون مدحا لغيره، كقوله:
شاهين موسى وإن أرضتك عفته ... أبر منه وأتقى باز عمران
وباز مالان لا تنجو طريدته ... ولو أتت بأمان من سليمان
فالعفة والتقى مبالغة في ذم الجوارح، وهما من أفضل ما يمدح به غيرها.
في تناوب الأعضاء
وهو مما يدل على تجويد الشاعر وقوة تصرفه، ومضاء خاطره وقلة توقفه، ومن أحسن ما جاء في ذلك قول أبي الطيب:
وجحفل ستر العيون غباره ... فكأنما يبصرن بالآذان
وقوله:
كأن الهمام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وحكى ابن رشيق قال: جلست يوما إلى ابن حديدة الشاعر وأنا سكران، فسألني عن حال المكان الذي خرجت منه، فوصفته، وأفضى بي الحديث إلى ذكر غلام كان ساقيا، فقلت في درج الكلام:
فشربتها من راحتي ... هـ كأنها من جنتيه
وقلت: أجز، فقال:
1 / 41