وهذا عكس ما اتفق لأبي تمام مع الكميت، لأنه أخذ معنى نصف بيت من شعره، فأورده في بيتين. قال أبو تمام:
وطول مقام المرء في الحي مخلق ... لديباجتيه فاغترب تتجدد
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ... إلى الناس إذ ليست عليهم بسرمد
والذي للكميت:
ولو لم تغب شمس النهار لملت
وللمعري:
السمهرية ليس يشرف قدرها ... حتى يسافر لدنها عن غابه
والعضب لا يشفي امرأ من ثأره ... إلا بفقد نجاده وقرابه
ولابن حيوس: كالمسك يزداد قدرا حين يغترب فأما قول مهيار:
ما اجتزن بالآذان كن مفاتحا ... وعلى قلوب عداكم أقفالا
فكل من بيتي حبيب وابن حيوس أصنع منه؛ وذلك أنهما جعلا الأقفال للشيء الذي كانت عليه مفاتيح، ومهيار جعل المفاتيح والأقفال لغيرين. ووصف ابن حيوس السيوف بأنها مفاتح البلاد أوقع موصف مهيار الأبيات بأنها مفاتح الآذان. وقد ذكر أبو تمام المفتاح في غير موضع من شعره، فمن ذلك قوله:
للجود باب في الأنام ولم تزل ... مذ كنت مفتاحا لذاك الباب
وقد قال بعض المعترضين عليه: أتى إلى ممدوحه نجعله مفتاحًا، فهلا قال كما قال ابن الرومي:
قبِّل أنامله فلسن أناملًا ... لكنهن مفاتح الأرزاق
فقيل له: لا تعجبن من هذا؛ فقد جعل ربه كذلك بقوله:
والله مفتاح باب المقفل الأشب
وعلى ذكر الأقفال وفتحها فقد أحسن الناشئ في قوله يصف اليويو:
مملك لنفوس الطير ينسفها ... نسفا فيقبض أجساما وأرواحا
كأنما أقفلت بالأهب أنفسها ... فكان بالكف للأقفال فتاحا
وقال ابن حيوس متصرفا في المعنى المقدم ذكره:
وبهم زلزلت بمن قارعوا الأر ... ض وهم أمنها من الزلزال
وكرره فقال:
تتزلزل الدنيا إذا غضبوا فإن ... بلغوا الرضى أمنت من الزلزال
وقال فيما يقارب هذا المعنى:
ثغور العدى إن رمتموهن كالفلا ... وكل فلاة رمتم منعها ثغر
وقال:
أخفت الآمنين سطى فلما ... عفوت غدوت أمن الخائفينا
ولأبي نصر المنازي:
لقد عرض الحمام لنا بسجع ... إذا أصغى له ركب تلاحى
شجى قلب الخلي فقال: غنى ... وبرح بالشجي فقال: ناحا
ومن مليح ما في هذه الأبيات:
ضعيف الصبر فيك وإن تقاوى ... وسكران الفؤاد وإن تصاحى
كذاك بنو الهوى سكرى صحاة ... كأحداق المها مرضى صحاحا
فأما قول ابن الرومي:
عيني لعينك حين تنظر مقتل ... لكن عينك سهم حتف مرسل
ومن العجائب أن شيئا واحدا ... هو منك سهم وهو مني مقتل
فليس من هذا الباب إلا أن فيه نوعا من مجانسته، وضربا من مناسبته، وهو من بديع ما ابتكره، وغريب ما اخترعه.
وكذلك قوله في وصف القوس:
توددت حتى لم أجد متوددا ... وأمللت أقلامي عتابا مرددا
كأني استدني بك ابن حنيةٍ ... إذا النزع أدناه من الصدر أبعدا
وقوله أيضًا فيها:
تشكي المحب وتلقى الدهر شاكية ... كالقوس تصمي الرمايا وهي مرنان
وقد أحسن ابن حيوس في قوله:
أرى كل معوج المودة يصطفى ... لديكم ويلقى حتفه من تقوما
حتى الناس من قبل القسي لتقتنى ... وثقف منآد القنا ليحطما
على أن صدر البيت الثاني مأخوذ من قول كشاجم في وصفها: قد قومت للرمي بالتعويج إلا أنه أحكم الأخذ والتركيب، وتصرف التصرف البديع الغريب، وقد اقتضت الأبيات في القوس ذكر الحكاية العجيبة في إتقان الصناعة في الرماية عنها، وهي أن راميين عرض لهما أسد، فقال أحدهما للآخر: اكفني عينه اليمنى أكفك اليسرى، فرمياه عن يد، فأعمياه وسلما.
ولبعض الأندلسيين:
تقوس بعد طول العمر ظهري ... وداستني الليالي أي دوس
فأمشي والعصا تمشي أمامي ... كأن قوامها وتر لقوسي
وعلى ذكر التشبيه فمن غريبه قول الآخر:
وألزمته ألحاظ طرف يحبه ... فليس بمرتد ولا بمغمض
إلى أن ثنت عيني الشمول كأنني ... ألاحظه سكرا بأجفان مبغض
من المدح الذي قلت أمثاله، وعزت أشباهه، وعدمت له النظائر، وعقمت عنه الخواطر قول حسن بن عبد الصمد:
سبقت مكارمه مواعده فلم ... يوسم بإنجاز ولا بمطال
وقاله:
1 / 30