من المحدثين المجيدين محمد بن شرف، وذكر في بعض تصانيفه أنه كتب يشرح حال حاج أصابه في الطريق حر شديد، فنزل بئرا ليشرب، فسقطت فيها صاعقة، فسلم منها، ثم ركب وسار، فنزل برد أصابت رأسه منه واحدة فقتلته. وكتابه في ذلك مشهور وقد كتب المملوك في هذا المعنى: إن من نوادر العبر، وبوادر الغير؛ ما اتفق لفلان عند توجهه من الطائف، وتركه استصحاب الماء توكلا على اللطائف، فإنه لقي يوما متلهب الأوار، متضرم النار، قد فقد نعيمه، وعدم نسيمه، واستعير من لفح جهنم حره وسمومه، فاستند إلى صبره، وأوى إلى جلده، ظانًا سرعة ذاك على ما وقع في خلده، فلما اشتد القيظ، وخيف على النفوس الفيظ، وتزايد به الأوام، وتشخص له الموت الزؤام؛ جعل يتماسك ويسير، وقد تيقن أن باقي عمره قليل يسير. فبينا هو على تلك الحال، يغور تارة وينجد، وقد أعوزه من يعين وأعجزه من ينجد؛ إذا هو ببئر ساقته إليها مهلة الأجل وهدته، وقادته نحوها فسحة المدة وأدته، فلعدم الرشاء وتعذره، وإعجال الأمر له عن تثبته وتصبره؛ نزلها كارعا في مائها، وناعشا بها نفسا لم يبق غير دمائها. وإنه لكذلك إذ وقعت عليه صاعقة حبيها يصعق، ومسها يهلك ويوبق، فلقيت البئر حدتها دونه، وحالت للمشيئة بين مضرتها وبينه، ثم صعد منها بعد أن نقع غلته، وبلغ أمنيته، فسما بطرفه، واستولى على طرفه، وأعجب بحظه، وتوهم أن القدر لا يغفل عن حفظه، وتحقق أن قصود المنايا له مخطئة، وضروب الرزايا عن الوصول إليه مبطئة، وسار جذلا غير جزع ولا وجل، واثقا بالسلامة وكم من واثق خجل! فما مضت ساعة حتى نشأت غمامة جر اليوم منها ستارته، ونسخ بها ذلك التوهج ومحا آيته، وجعل جامد السماء يذوب، وماء المزن يهطل ويصوب، وأخذت الأقضية تحلل من الديم العقد، وتفوق إلى مقاتل المقتول سهام البرد، فلم يزل يأتيه أرسالًا، ويتناثر عليه يمينا وشمالا، إلى أن أصابت إحداهن منه الهامة، فأذهبت نفسه وعجلت له القيامة. فسبحان من قرب له المسافة بين منهل الاغترار ومصرع الاعتبار، ومن نجاه مما الهلكة بمثله معتادة، وأهلكه بما يحيي به أرضه ويرحم عباده. وهو المسؤول أن يسبغ علينا فضله، ولا يجعلنا بين عباده مثلة، إنه جواد يجيب داعيه، ولا يخيب راجيه.
وابن شرف من أعيان الشعراء، وأماثل البلغاء، وله أبيات يجيد فيا، ويحسن في معانيها. فمن بديع شعره قوله:
خلق كماء المزن طيب مذاقه ... والروضة الغناء طيب نسيم
كالسيف لكن فيه حلم واسع ... عمن جنى، والسيف غير حليم
كالليث إلا أنه متبرقع ... بوسامة، والليث غير وسيم
كالغيث إلا أن وابل جوده ... أبدا، وجود الغيث غير مقيم
كالدهر إلا أنه ذو رحمة، ... والدهر قاسي القلب غير رحيم
وقوله:
جفاني فواصلت الصبابة والأسى ... وبان فلم أعدم سهادا ولا دمعا
أأسر ولا أفدى، وقتل ولا أدى ... وسقم ولا أشفى، وموت ولا أنعى
وقوله:
إن تلقك الغربة في معشر ... تضافروا فيك على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
وقوله في مثله:
يا ثاويا في معشر ... قد اصطلى بنارهم
فما حييت جارهم ... ففي هواهم جارهم
وأرضهم في أرضهم ... ودارهم في دارهم
وقوله في عود قينة:
سقى الله أرضا أنبتت عودك الذي ... زكت منه أغصان وطابت مغارس
تغنى عليها الطير وهي رطيبة ... وغنى عليها الناس والعود يابس
وقوله في مثله:
يا عود من أية الأشجار أنت فلا ... جفا ثراها ولا أغصانها الماء
غنى القيان عليها وهي يابسة ... بعد الحمام زمانا وهي خضراء
وقوله:
خليل النفس لا تخل الزجاجا ... إذا بحر الدجى في الجو ماجا
وجاهر في المدامة من ترائي ... فما فوق البسيطة من يداجى
إذا مريخها اتقد احمرار ... صببنا المشتري فيها مزاجا
والناس مختلفون في المزج. فمنهم من يراه فيأمر به، ومنهم من يكرهه فينهى عنه. وأحسن ما سمعه المملوك في الاعتذار عن المزج قول ابن رشيق:
ما سجها الساقي لسوء خلقها ... كيف ومن تعليمها حسن الخلق
وإنما ظن سناها لهبا ... فشجعها بالماء كيلا تحترق
وهو مما أخذه من قول عبد المحسن:
1 / 24