والثانية:
أن الطبيعة لا تعرف اطرادا أو تماثلا أو هوية تامة بين الظواهر والتكرار المطلق فيها مستحيل. بل إن الصفة الأساسية لها هي الفردية، وأقصى ما يمكننا أن نجده بين ظواهرها هو درجات متفاوتة من التشابه
likeness . أما التماثل
sameness
فلا وجود له.
هاتان النتيجتان الهامتان تستتبعان تعديلا أساسيا في مفهوم العلية؛ فالعلة والمعلول في تجاربنا الإدراكية المألوفة لا يدلان إلا على تشابه متفاوت في الدرجة، لا على تكرار مطلق، وقانون العلية ليس إلا اقتطاعا من التجربة، ولا يكون ماهية التجربة ذاتها، والمشكلة الحقيقية لا تنحصر في السؤال القائل: هل يؤدي السابق - المسمى بالعلة - إلى تكوين اللاحق - المسمى بالمعلول؟ وإنما الأهم من ذلك أن نتساءل: ما هي الدرجة أو ما هو الحد الذي يؤدي فيه تشابه السابق إلى تشابه اللاحق؟ وإلى أي مدى يؤدي تنويع أحدهما إلى تنويع الآخر؟ ففي الحالات التي لا يؤدي فيها تنويع السابق إلى أي تأثير في اللاحق يكون هناك استقلال تام. وفي الحالات التي يؤدي فيها تنويع السابق إلى التنويع مطابق تماما للاحق يكون هناك اعتماد تام، غير أن الاستقلال التام والاعتماد التام حالتان متطرفتان، تمثلان في واقع الأمر حدا عقليا للمعرفة. أما في الحالات الفعلية التي يصادفها العالم في أبحاثه الواقعية، فلا وجود لمثل هذه الحالات المتطرفة، وإنما توجد درجات لا نهاية لها من الارتباط بين الظواهر، هي درجات تتفاوت اقترابا من أحد هذين الحدين العقليين وابتعادا عن الآخر.
وهكذا يستعيض بيرسن عن مفهوم العلية، الذي يراه مفهوما عتيقا بمفهوم الارتباط
correlation ، الذي يؤكد أنه أوسع نطاقا بكثير من المفهوم القديم؛ لأنه يضم في داخله كل العلاقات التي تقع بين حدي: الاستقلال المطلق والاعتماد المطلق، وعلى حين أن الاكتفاء بفكرة العلية لم يكن يتيح تحديدا كميا لدرجة الاعتماد أو الاستقلال بين الظواهر موضوع البحث بين هذين الحدين المتطرفين؛ ففي حالة العلية نجد أن الظواهر إما أن تكون خاضعة لهذه العلاقة أو لا تكون. أما إذا استعضنا عن العلية بالارتباط فإن المجال يتسع لعدد لا نهاية له من الحالات الوسطى التي تتراوح بين هذا الحد المتطرف وذاك، كذلك يمكننا - بفضل فكرة الارتباط - أن نربط الظاهرة الواحدة بعدد كبير من الظواهر الأخرى التي قد يكون لكل منها دور متفاوت الدرجة في إحداث الظاهرة الأولى، وهو ما يتفق مع الفهم الواسع لفكرة العلية، بما يؤدي إليه من تسلسل لا يقف عند حد، على حين أن المفهوم القديم للعلية يقتصر على الربط بين ظاهرتين أو مجموعتين من الظواهر فحسب، ومن جهة ثالثة فإن فكرة الارتباط تصلح للتعبير عن عالم لا يتضمن إلا عناصر فردية غير متكررة، لا يعترف فيه بالتماثل التام بين الظواهر، على حين أن مفهوم العلية يفترض وجود أنماط متكررة بينها تجانس كامل، بالاختصار؛ ففي فكرة الارتباط مرونة تفتقر إليها مقولة العلية الجامدة. وفيها إحلال للفوارق الكمية محل التفسيرات الكيفية، يتمشى مع الاتجاه العام للعلم الحديث.
ونستطيع أن نقول: إن إصرار الباحثين عندما تصادفهم ظاهرة معينة على أن يتساءلوا: ما سببها؟ يؤدي بهم في كثير من الأحيان إلى أخطاء أو مواقف متحيزة كان يمكنهم التخلص منها بسهولة لو استعاضوا عن السؤال السابق بالسؤال : ما درجة ارتباطها بالظواهر الأخرى؟ فالسؤال الأول يقتضي إجابة واحدة نهائية هي في معظم الأحيان مستحيلة بالنسبة إلى هذا الكون العظيم التعقيد. أما السؤال الثاني فمن الممكن الإتيان بجواب معقول عنه، واكتساب معرفة عظيمة القيمة بشأنه، ولو تناولنا ظاهرة طبيعية معقدة مثل حالة الطقس؛ لوجدنا أن العوامل التي تتدخل فيها تبلغ من التشابك حدا يستحيل معه الكلام عن «سبب» في هذا الصدد، على حين أن فهم حالة الطقس عن طريق تحديد مدى ارتباطها بمختلف العوامل المؤثرة فيها - كالحرارة والرطوبة والضغط ... إلخ - يؤدي إلى إلقاء ضوء واضح على المشكلة موضوع البحث. أما في حالة العلوم الإنسانية فإن فكرة الارتباط بالقياس إلى فكرة العلية أوضح بكثير، خذ مثلا محاولات العلماء تعليل ظاهرة الأجرام: فكثير من هؤلاء العلماء يأتون بنظريات يتضمن كل منها سببا واحدا يعللون به هذه الظاهرة، كعوامل البيئة الاجتماعية أو الأسرة أو العامل الاقتصادي أو الوراثي أو التكوين الجسمي العصبي. ولكن الواقع يثبت دائما أن ظاهرة الجريمة أعقد من أن ترجع إلى واحد فقط من هذه العوامل، وإن كانت الحالات التي تدرس قد تبدو مرجحة لأحد من هذه العوامل على الباقين، وعلى العكس من ذلك فإننا لو بحثنا هذه الظاهرة من خلال فكرة الارتباط، أي إذا حددنا مقدار ارتباطها بالعامل الاقتصادي وبعامل تفكك الأسرة وغيرها من العوامل التي ينبه إليها الجريمة؛ لوصلنا إلى نتائج عظيمة الفائدة، دون أن نقيد أنفسنا بنظرية واحدة ذات طابع مطلق، فهناك إذن مجالات تشوه طبيعتها إذا عولجت عن طريق مقولة السببية، بينما يلقى عليها ضوء ساطع لو بحثت من خلال فكرة الارتباط. (7) المكان والزمان
المكان أساسا تعبير ذهني عن قيام ملكة الإدراك بفصل الانطباعات الحسية الموجودة معا في مجموعات من الانطباعات المترابطة، ففكرة المكان في رأي بيرسن تتوقف أساسا على قدرة الملكة الإدراكية التمييز والفصل بين المجموعات المختلفة للانطباعات الحسية، وأساس عملية الفصل والتمييز هذه هو التعود والتجارب السابقة، وهي بطبيعتها عملية ذهنية لا تنطبق على الواقع نفسه، وإنما تحدث لاعتبارات عملية، فذهننا يقوم بوضع حدود حول مجموعات معينة من الانطباعات، وهي حدود «اعتباطية» لا تطابق أي شيء حقيقي في عالم الانطباع الحسي أو الظواهر.
صفحه نامشخص