5
أما ما يسميه الميتافيزيقيون بالأشياء في ذاتها، فلا نعرف نحن عنه إلا صفة واحدة، هي «القدرة على تكوين انطباعات حسية، وبعث رسائل تمر بأعصاب الحس حتى المخ، فهذا هو القول العلمي الوحيد الذي يمكن الإدلاء به بشأن ما يوجد وراء الانطباعات الحسية.»
6
هذه إذن صورة العالم عند كارل بيرسن: انطباعات حسية مباشرة هي الأساس الوحيد لمعرفتنا، واختزان لهذه الانطباعات في الذهن البشري، ثم إجراء تركيبات ومقارنات ذهنية بين الانطباعات المختزنة تتكون منها العناصر الأولية لكل بحث علمي؛ فالعلم إذن يتعلق بتحليل وتصنيف تلك المركبات الذهنية التي ترتد آخر الأمر إلى انطباعات حسية مباشرة، وإن كانت صورتها الراهنة تختلف عنها كل الاختلاف، ولعلنا قد أدركنا بوضوح مدى اقتراب هذه الصورة للعالم من تلك الصورة المناظرة لها عند التجريبيين الإنجليز - ولا سيما هيوم - ومدى وثوق الصلة بين مهمة العلم - كما يحددها بيرسن - ومثيلتها عند الوضعيين في أواخر القرن التاسع عشر (ولا سيما العالم الألماني إرنست ماخ
Mach ) وفي أواسط القرن العشرين (ولا سيما الفيلسوف الإنجليزي آير
Ayer )، ولن نتعرض ها هنا لنقد هذه الصورة للعالم وهذا التحديد لمهمة العلم. وحسبنا أن نوضح ذلك الأساس النظري الذي تقوم عليه فلسفة بيرسن العلمية، وهو أساس سنقوم فيما بعد بتحليل مفصل له. (4) القانون العلمي
هل يوجد القانون العلمي في الطبيعة ذاتها، أو في الذهن البشري الذي يهتدي إليه؟ وهل هناك فارق أساسي - في هذا الصدد - بين القانون العلمي وبين القانون التشريعي؟ يؤكد بيرسن أن هذين النوعين من القانون متشابهان في صفة أساسية، هي أن كلا منهما لا وجود له قبل تعبير الإنسان عنه، ولا معنى له إلا لأنه مرتبط بذهن الإنسان، «فالقانون العلمي، هو تلخيص أو تعبير موجز عن العلاقات والتعاقبات بين مجموعة معينة من الإدراكات الحسية والعقلية، ولا وجود له إلا عندما يصوغه الإنسان»،
7
ولما كان بيرسن يلغي فكرة الأشياء في ذاتها، ويرى الطبيعة متوقفة على ملكات الإنسان في الإدراك والاستعادة، فإن القانون الطبيعي في نظره متوقف بدوره على هذه الملكات، ولا صلة له بأي شيء يخرج عن نطاق الذهن البشري؛ وعلى ذلك فإن القانون الطبيعي لا تكون له صحة مطلقة إلا بالنسبة إلى نوع معين من الملكة الإدراكية، هو ذلك النوع الذي يتوافر للإنسان السوي.
ولا يعني بيرسن بهذا التعبير الأخير أن عملية الوصول إلى القانون العلمي ذهنية فحسب، بل يعني أيضا أن القانون ذاته، بعد التوصل إليه، ينطوي على ربط بين وقائع طبيعية وبين إدراكات عقلية تبعد تماما عن المجال الخاص بهذه الوقائع؛ فالقانون العلمي ليس كشفا لعلاقات موجودة في طبيعة الأشياء، وإنما هو «اختراع» لهذه العلاقات، هو وصف مختصر لطريقة تعاقب الانطباعات الحسية في مجال معين، أو اختزال ذهني يحل لدينا محل الوصف المطول لتعاقبات الانطباع الحسي،
صفحه نامشخص