يعني لانجه بالمادية في الأخلاق كل مذهب يحدد هدف السلوك الأخلاقي، لا على أساس فكرة تسري على نحو مطلق، وإنما على أساس السعي إلى تحقيق حالة مرغوب فيها، مثل هذا المذهب يبدأ - كالمادية النظرية - من المادة في مقابل الصورة، وكل ما في الأمر أن المقصود هنا ليس مادة الأجسام الخارجية، وإنما المادة الأولية للسلوك العلمي، أي الدوافع ومشاعر اللذة والألم.
10
وعندما تطبق هذه المادية الأخلاقية في مجال السياسة، تتحول إلى شكل من أشكال الأنانية: كالقول بالحرية الاقتصادية وبفكرة المنفعة، وتغليب القيم «العلمية» والرغبة في توسيع نطاق الأعمال الخاصة وتكديس الأرباح. وهكذا يربط لانجه بين الرأسمالية بجميع مظاهرها المعروفة، والتي كانت أشد تطرفا في عصره بطبيعة الحال وبين المادية؛ إذ إن الجشع الرأسمالي والرغبة في الانتفاع على حساب الغير إنما ترتبط - في رأيه - بالتقدم المادي وبالاهتمام بالأوجه المادية للحياة بعد الثورة الصناعية.
ولا شك أن آراء لانجه هذه تعد، من وجهة النظر المعاصرة، باطلة تماما؛ لأن المادية ترتبط في أذهاننا الآن بالعداء للرأسمالية، الذي يتمثل على أوضح صورة في المادية الديالكتيكية عند ماركس. ولعل الخلط الذي وقع فيه لانجه في هذا الصدد هو أوضح مظهر من مظاهر ذلك النقص الرئيسي في كتابه وهو تجاهله للمادية الماركسية وعدم إدخالها ضمن الأشكال المعترف بها للمذهب المادي؛ على أن في وسعنا أن نستخلص من هذا الخلط أمرا له دلالته البالغة؛ فها هو ذا مفكر استعرض تاريخ المادية، حتى عصره بدقة بالغة، وانتهى إلى الربط بينها وبين الرأسمالية في مجال الاقتصاد السياسي، أليس في هذا دليل بالغ على مدى الاضطراب في فهم كلمة «المادية». وفي استخلاص مضموناتها الأخلاقية والسياسية؟ الحق أن معظم الناس ما زالوا يربطون - عن وعي حينا ودون وعي أحيانا - بين المادية وبين معنى الجشع والسعي إلى الربح وتكديس الأموال وتحقيق المصالح الشخصية، فهل يكون من المستغرب - والحال هذه - أن نرى أشد دول العالم تمسكا بدافع الكسب والربح، وأعظم شعوب العالم حبا للمال، تتخذ من نفسها حامية للروحية في العالم ضد «مادية» الاشتراكيين؟ وهل يكون من المستغرب أن يتهم كل مذهب يرمي إلى تحقيق المزيد من عدالة التوزيع، إلى تأكيد قيم التعاون والتضامن فوق القيم الفردية الضيقة المحدودة، بأنه مذهب يتجاهل العناصر «الروحية» في الإنسان؟ الحق أن الأمور كلها مختلطة والمقاييس مقلوبة، وأن الصورة التي ما زالت عالقة بأذهان مجموعات كبيرة من البشر - في النصف الثاني من القرن العشرين - لا تقل اضطرابا - في المجال السياسي - عن تلك التي نجدها عند «لانجه» منذ قرن من الزمان، والسبب الأكبر في ذلك الاضطراب هو الخلط الكبير في فهم ذلك المصطلح العظيم الخطورة: مصطلح «المادية»، وهو خلط يمكن أن يعد دعامة كبرى ترتكز عليها دعايات القرن العشرين. (5) نصوص مختارة من كتاب «تاريخ المادية» (5-1) فضل التفكير العربي على العلم
في هذا النص يوضح لانجه موقف المفكرين والفلاسفة العرب من مشكلة المادية، التي يفهمها في هذا الجزء من الكتاب بمعنى يقرب من معنى «الروح العلمية»؛ ومن هنا فإن النص بأكمله يعد من خير الشواهد التي قدمها الكتاب الغربيون على فضل الحضارة العربية في ميدان العلم: ... كان ثالث الأديان التوحيدية الكبرى - وهو الإسلام - أقربها إلى الروح المادية، فقد كانت هذه العقيدة - التي هي أحدث العقائد الثلاث عهدا - أسرعها إلى رعاية الروح الفلسفية المتحررة، التي نمت مع الازدهار الرائع للحضارة العربية. وكان لها تأثير قوي في المحل الأول على يهود العصور الوسطى؛ ومن ثم على مسيحيي الغرب بطريق غير مباشر.
ولقد ظهرت في الإسلام - حتى قبل معرفة العرب للفلسفة اليونانية - شيع ومدارس متعددة في علم الكلام، تكونت لدى بعضها فكرة عن الله بلغت حدا من التجريد استحال معه على أي بحث فلسفي أن يمضي أبعد منها في هذا الاتجاه، على حين أن بعضها الآخر لم يكن يؤمن إلا بما يمكن تعقله وإثباته، وقد ظهرت في المدرسة الكبرى بالبصرة، طائفة من العقليين، تحت رعاية العباسيين، كانت تسعى إلى التوفيق بين العقل والإيمان.
ولو قارنا بين هذا التيار الزاخر من علم الكلام والفلسفة الإسلامية الخالصة، وبين المشائين الذين تطرأ أسماؤهم على أذهاننا عادة عندما يرد ذكر الفلسفة العربية الوسيطة؛ لبدا هؤلاء الأخيرون مجرد فرع ضئيل الأهمية نسبيا، دون تنوع مذكور في داخله، ولم يكن ابن رشد - الذي كان اسمه أكثر الأسماء شيوعا في الغرب بعد أرسطو - نجما يحتل المكانة الأولى في سماء الفلسفة الإسلامية، وإنما ترجع أهميته الحقيقية إلى أنه هو الذي تجمعت عنده نتائج الفلسفة العربية الأرسططالية التي كان هو ذاته آخر ممثل عظيم لها، وهو الذي نقلها إلى الغرب في مجموعة واسعة النطاق من المؤلفات، ولا سيما في شروحه على نصوص أرسطو. ولقد نمت هذه الفلسفة - شأنها شأن الفلسفة المدرسية المسيحية - من تفسير لأرسطو يتسم بطابع أفلاطوني محدث. ولكن على حين أن المدرسية الغربية - في مراحلها الأولى - لم تكن لها إلا معرفة ضئيلة باللاهوت المسيحي وخاضعة لسلطانه، فإن الينابيع التي تدفقت على العرب من خلال المدارس السريانية كانت أغزر بكثير، فمضى الفكر معها في طريق أكثر تحررا من تأثير اللاهوت، الذي شق لنفسه طرقا تأملية خاصة به. وكانت نتيجة ذلك أن الجانب الطبيعي من مذهب أرسطو قد نما بين العرب على نحو لم تعرفه المدرسية المسيحية الأولى على الإطلاق، مما أدى فيما بعد بالكنيسة المسيحية إلى أن تعد مذهب ابن رشد مصدرا لأشد أنواع التجديف ...
على أن من واجبنا أن نشكر الحضارة العربية في العصور الوسطى على عنصر آخر إلى جانب فلسفتها، ربما كان أوثق صلة بتاريخ المادية، هو أعمالها الهامة في ميدان البحث الوضعي. وفي الرياضيات والعلوم الطبيعية، بأوسع معاني هذه الكلمة، والحق أن الخدمات الرائعة التي أداها العرب في ميدان الفلك معروفة بما فيه الكفاية،
11
ولقد كانت هذه الدراسات بوجه خاص هي التي أدت - عندما ارتبطت بالتراث اليوناني - إلى إفساح المجال مرة أخرى لفكرة انتظام مجرى الطبيعة وخضوعه للقانون، وحدث ذلك في وقت أدى فيه تدهور الإيمان في العالم المسيحي إلى بعث اضطراب في النظام الأخلاقي والمنطقي للأشياء يفوق ما كان حاصلا في أية فترة من فترات الوثنية اليونانية الرومانية. وفي وقت كان كل شيء فيه يعد ممكنا ولا شيء يعد ضروريا. وكان يفسح فيه مجال لا حدود له لحرية الموجودات التي كان الخيال لا يكف عن إضفاء صفات جديدة عليها ...
صفحه نامشخص