5
وقد اقتبس مؤرخ الفلسفة المشهور «برييه»
Brehier
هذا النص
6
دون أن يحلله تحليلا كافيا، ودون أن يتوصل إلى دلالته الكاملة؛ ذلك لأن التخيل والتذكر ملكتان بشريتان، ولا علاقة لهما بالحيوانات، لا سيما وأن الحيوانات - في مذهب ديكارت بالذات - أشبه بالآلات التي لا تشعر ولا تعي، فما معنى التجاؤه إلى تشريح رءوس الحيوانات من أجل تفسير طبيعة التخيل والتذكر؟ إن لهذه العبارة دلالة مزدوجة؛ فهي أولا تدل على أن ديكارت يحاول أن يزيل الحد الفاصل بين الطبيعة الجسمية للحيوان والإنسان، ويفسر الثاني من خلال الأول، والأهم من ذلك أنها تتضمن تفسيرا ماديا وآليا، لا للوظائف الجسمية أو الحيوية فحسب، بل للوظائف الفكرية أيضا؛ فالتخيل والتذكر ملكتان عقليتان، ومع ذلك فإن تشريح رءوس الحيوانات يمكن أن يفسرها، ولنتذكر في هذا الصدد أن ديكارت عندما شرح كلمة «أنا أفكر
Cogito » فسرها بأنه يقصد التفكير بالمعنى الواسع، الذي يشمل التخيل والتذكر والرغبة ... إلخ؛ أي إن الصفات التي تنتمي إلى صميم النفس من حيث هي جوهر مفكر، يمكن تفسيرها من خلال التشريح.
هذا الاتجاه إلى توسيع نطاق فكرة الآلية؛ بحيث يصبح الكون كله آلة ضخمة تسير قواها الذاتية دون غايات، وبحيث يصبح الإنسان ذاته خاضعا لقوانين الفيزياء الكونية، لا في وظائفه الحيوية فحسب، بل ربما في وظائفه الفكرية أيضا، يتعارض، كما قلنا من قبل، مع المزاج الميتافيزيقي. ومن الصعب أن تكون الميتافيزيقا هي الهدف الأساسي لفيلسوف يضفي على التفسير الآلي للظواهر كل هذه المكانة في مذهبه. كما أن من الصعب أن يكون هناك مكان رئيسي للميتافيزيقا في هذا العالم الديكارتي الذي يخضع لقوانين الميكانيكا وتستبعد منه القوى الخارجة عن الطبيعة. (4)
ومن العوامل الهامة التي تؤيد هذا التفسير أن كثيرا من تعبيرات ديكارت التي تتخذ مظهرا ميتافيزيقيا أو لاهوتيا يمكن أن تفسر تفسيرا علميا. بل إنها تخدم قضية العلم، الذي كان لا يزال ناشئا في ذلك الحين، أكثر مما تخدم قضية الميتافيزيقا أو اللاهوت التقليدي، وذلك على عكس ما يوحي به مظهرها الخارجي.
فديكارت يتناول فكرة لاهوتية وميتافيزيقية خالصة، وهي فكرة ثبات الطبيعة الإلهية؛ لكي يستنتج منها عددا من النتائج الهامة التي تشترك كلها في أنها تخدم العلم الناشئ، فنظرا إلى أن الطبيعة الإلهية ثابتة، فإن القوانين التي يسير العالم وفقا لها لا بد أن تكون ثابتة.
صفحه نامشخص