2
أما إثباته لوجود العالم، فلا يمكن أن يعد إثباتا بالمعنى الصحيح، وخاصة إذا ما نظر إليه في ضوء الشك الشديد الذي بدأ به ديكارت، وإنما هو أقرب ما يكون إلى الاطمئنان النفسي واستعادة الثقة فيما تنقله إلينا حواسنا عن هذا العالم.
3
إننا لا نستطيع بالطبع أن نناقش موضوعا عظيم الاتساع كالميتافيزيقا الديكارتية في هذه اللمحة السريعة. ولكننا نرى أن جميع الانتقادات التي وجهت إلى البناء الميتافيزيقي عند ديكارت - وما أكثرها - تدعم وجهة النظر القائلة: إن دور الميتافيزيقا سلبي؛ أي إنها تدعم التفسير الذي يركز على «ثمار» الشجرة، ويرى في الجذور الميتافيزيقية مجرد وسيلة تمهد - آخر الأمر - لظهور هذه الثمار. (2)
ولو تأمل المرء ترتيب الحقائق التي كان ديكارت يهدف إلى إثباتها في مذهبه الميتافيزيقي؛ لأمكنه أن يفسر هذا الترتيب على نحو تكون فيه الميتافيزيقا أساسا يمهد لقيام العلم، ولا تكون فيه غاية مقصورة لذاتها؛ فالحقيقة الأولى التي يرتكز عليها بناء الميتافيزيقا هي وجود الذات، والحقيقة الثانية هي وجود الله، والثالثة وجود العالم. ولقد أراق شراح ديكارت بحورا من المداد لكي يثبتوا أن انطلاقه من الحقيقة الأساسية المتعلقة بوجود الذات، واتخاذه من الكوجيتو (أنا أفكر) أساسا لإثبات هذا الوجود، وتأكيده أن هذه هي القضية المحورية في مذهبه الميتافيزيقي، معناه أن ديكارت فيلسوف ميتافيزيقي مثالي، بل هو «أبو المثالية الحديثة»، ما دام جوهر المثالية هو تأكيد أولوية الفكر، لكن من الممكن أن يقال - من وجهة نظر أخرى. إن الانطلاق من حقيقة الفكر التي تؤسس وجود الذات لا يدل على أولوية الفكر في مذهبه، بل كانت تلك نقطة بداية ضرورية لكي يتسلسل إثبات الحقائق الثلاث الرئيسية بطريقة مقنعة للعقل فحسب؛ فالترتيب في هذه الحالة هو ترتيب منهجي لا مذهبي؛ أي إن أفضل طريقة عرض ممكنة، وأكثر هذه الطرق إقناعا للذهن، هي تلك التي تبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات وتنتهي إلى وجود العالم. ولكن هذا الترتيب لا يعكس على الإطلاق أهمية كل حقيقة من هذه الحقائق الثلاث داخل المذهب، ليس ترتيبا «للأولوية» بينها.
والدليل الواضح على ذلك هو موضع الحقيقة المتعلقة بوجود الله، فهذه الحقيقة يأتي ترتيبها ثانيا؛ أي بعد حقيقة وجود الذات، فهل يعقل أن فيلسوفا مثل ديكارت، بذل كل هذا العناء من أجل تقديم مذهب ميتافيزيقي يرضى عنه رجال اللاهوت، بل ربما كان يستهدف من الميتافيزيقا كلها إسكات الأصوات المعارضة، هل يعقل أن يكون قد تعمد أن يضع حقيقة وجود الله في المرتبة الثانية من حيث الأهمية داخل مذهبه؟ إن هذا مستحيل بالنسبة إلى ظروف فيلسوفنا؛ لأنه لو صح لكان بذلك يناقض نفسه ويهدم كل ما بناه، ويعطي خصومه سلاحا قويا يهاجمون به ذلك الذي جعل وجود الذات أهم من وجود الله، وهو أيضا مستحيل بالنسبة إلى البناء الداخلي للمذهب ذاته؛ لأن وجود الله عنده هو دعامة المذهب كله، ومنذ اللحظة التي يتم فيها «إثبات » وجود الله يصبح كل شيء مرتكزا على هذه الحقيقة الأساسية.
وإذن فالترتيب الذي جاءت به الحقائق الثلاث في مذهب ديكارت ليس ترتيبا لأهمية هذه الحقائق داخل المذهب، بل هو كما قلنا ترتيب منهجي، يقصد به عرض هذه الحقائق بأكثر الطرق إقناعا للعقل، وما هو في حقيقته إلا تطبيق لقاعدة «التركيب»، أي القاعدة الثالثة من قواعد المنهج الديكارتي المشهورة، التي تعطي للباحث عن الحقيقة حرية ترتيب قضاياه، دون التقيد بالترتيب الطبيعي لهذه القضايا؛ بحيث تقتنع العقول بها اقتناعا كاملا.
فإذا كان الأمر كذلك، فلن تعود هناك أسبقية لوجود الفكر على وجود العالم، ولا يحق لأحد أن يستنتج، من ورود حقيقة الفكر أولا، أنها هي الأولى في الأهمية، أو من ورود حقيقة العالم أخيرا أنها ثانوية الأهمية. بل إن كل ما في الأمر هو أن تسلسل البرهان على هذه الحقائق يقتضي - لكي يكون مقنعا إلى أقصى حد - أن يبدأ بحقيقة الفكر ووجود الذات، وينتقل منها إلى وجود الله، ثم من وجود الله إلى وجود العالم.
في هذا الإطار تبدو الميتافيزيقا الديكارتية كما لو كانت رحلة طويلة تستهدف، آخر الأمر، استرداد الثقة في وجود العالم. وفي الوسائل التي نستخدمها من أجل معرفته، وهي الحواس والعقل، أو بعبارة أخرى في الموضوع الذي يبحثه العلم وأدوات المعرفة العلمية. وحين تكون هذه هي نهاية المطاف في تلك الميتافيزيقا وسيلة تمهد لظهور العلم؛ أي إن مهمتها هي تذليل عقبات معينة كان من الممكن أن تحول دون ظهور العلم أصلا، وبعد أن تنتهي مهمة الميتافيزيقا يبدأ دور العلم. فبعد آخر حقيقة يتم إثباتها ميتافيزيقيا - هي وجود العالم والثقة في حواس الإنسان وعقله - يصبح الطريق ممهدا لكي يبدأ العالم عمله، وبهذا المعنى تكون الميتافيزيقا هي جذر الشجرة الذي يمهد لظهور غيره، الذي يختبئ «تحت الأرض» لأنه مجرد وسيلة لغاية أخرى مغايرة له.
هنا يمكننا أن نستشف سمة هامة في الميتافيزيقا الديكارتية ، هي أنها خطوة تمهيدية في طريق العلم، إنها تختلف عن الميتافيزيقا التقليدية، عن «ما بعد الطبيعة»؛ أعني عن ذلك المبحث الذي كان - عند الفلاسفة التقليديين في العصور القديمة والوسطى - يظهر بوصفه تتويجا للمذهب، ويفترض معرفة بالمسائل الطبيعية ثم يتجاوز هذه المعرفة لكي يبحث في «المبادئ الأولى»، بمعنى المبادئ القصوى أو النهائية؛ فالميتافيزيقا الديكارتية، وفقا لهذا التفسير، هي الفصل التمهيدي في كتاب المعرفة، وبعدها يبدأ العلم في الظهور. بل إننا لو شئنا الدقة لقلنا: إن هذه الميتافيزيقا محاطة بالعلم من الجانبين؛ ذلك لأن مسارها عند ديكارت يفترض معرفة دقيقة بالمنهج الرياضي، الذي يبعث الروح في كل مرحلة من مراحل الرحلة الميتافيزيقية الطويلة، ويوجه هذه الرحلة من بدايتها إلى نهايتها، فقبل أن نبدأ الميتافيزيقا ينبغي أن يكون الفيلسوف قد ألم بالرياضيات وتشبع بمنهجها إلى الحد الذي يتيح له أن يرتب أفكاره الميتافيزيقية بالطريقة الصحيحة، وبعد أن تنتهي الميتافيزيقا يكون الطريق قد أصبح ممهدا لقيام العلم الطبيعي، ومن بعده المعارف العملية التطبيقية؛ وعلى هذا الأساس تكون الميتافيزيقا الديكارتية مرحلة وسطى بين مرحلتين عمليتين: الأولى تسبقها والثانية تلحقها.
صفحه نامشخص