وربما كانت هذه الصفة هي أكثر الصفات تمييزا للحقيقة العلمية عن الجمال الفني؛ وذلك لأن الفنان لا يعمد أبدا إلى التحليل، وهو لا يسعى أصلا إلى الفهم أو كشف القانون، وإنما الفن - قبل كل شيء - خبرة و«تجربة». وفي هذه التجربة الفنية لا نتذوق الجمال إلا إذا تركنا أنفسنا نستمتع بالعمل الفني دون تحليل أو تشريح. ولقد عبر الشاعر الألماني العظيم «جوته» عن هذه السمة المضادة للتحليل في التجربة الفنية بقوله: «إن كل نظرية شاحبة. أما وجه الحياة فناضر مفعم بالحيوية.» ويقترب من هذا المعنى القول المشهور : «إن كل تشريح قتل.» والمقصود هنا ليس المعنى المباشر، الذي يتعين علينا فيه أن نقتل الضفدعة مثلا قبل أن نقوم بتشريحها، بل المعنى غير المباشر، الذي يؤدي فيه التحليل العلمي إلى تشويه التجربة وضياع مذاقها المميز، فلكي تستمتع بالجمال الفني حقا ينبغي أن تترك هذا الجمال يسري خلالك ويؤثر في أعماقك ويغمرك من جميع الجوانب، وينبغي أن تستغرق في تأمله وفي تذوقه استغراقا تاما، أما إذا بدأت تحلل تجزئ وتشرح، فسوف يضيع منك قدر كبير من تجربة الجمال. صحيح أن الناقد يقوم بمثل هذا التحليل والتشريح. ولكنه يفعل ذلك في وقت ويستمتع بالعمل الفني في وقت آخر، وحتى لو كان من بين أولئك الذين يقومون بالأمرين معا في وقت واحد، فإنه هو ذاته يعترف بأن هذه مقدرة لا تتاح إلا لقلة قليلة من البشر، وبأن الأغلبية العظمى من متذوقي الفن لو جمعوا بين الاستمتاع والتحليل في وقت واحد؛ لفقدت تجربتهم الجمالية قدرا كبيرا من صدقها وأصالتها.
إن الاستمتاع بالجمال الفني هو بعبارة أخرى: واحد من تلك التجارب التي لا يعبر عنها باللغة إلا مجازا، على سبيل التقريب فحسب، فهو تجربة فريدة لا تتكرر، ولا يستطيع المرء أن ينقلها إلى الآخرين بسهولة؛ ومن هنا كان من أهم سمات التجربة الجمالية كونها شخصية ذاتية، أما الحقيقة العلمية فلا غناء لها عن لغة تعبر عن نفسها من خلالها. وقد تكون تلك هي اللغة الكلامية المألوفة، أو قد تكون لغة خاصة اصطنعت لأغراض علمية كاللغة الرياضية أو أية لغة رمزية أخرى. والمهم في الأمر أن تلك الحقيقة لا تنقل إلى الآخرين إلا من خلال اللغة، ولما كانت الحقيقة العلمية بطبيعتها قابلة للتداول، ولا بد لكل عقل يفهمها أن يقتنع بها ويتبناها كما لو كانت حقيقته الخاصة، فإن وجود نوع من اللغة يعد واحدا من المقومات الرئيسية للحقيقة العلمية. أما التجربة الفنية فشخصية ذاتية، لا يحس مذاقها كاملا إلا صاحبها وحده، ويعجز عن نقلها كاملة إلى الآخرين. •••
هكذا تكشف لنا المقارنة بين سعي العالم إلى كشف الحقيقة وسعي الفنان إلى الاستمتاع بالجمال عن وجود فوارق أساسية بين طبيعة قيمتي الحق والجمال، وهي فوارق تبرر الرأي الشائع الذي ينظر إليهما على أنهما تمثلان مجالين منفصلين لا سبيل إلى الالتقاء بينهما.
ولقد كان هذا هو ما حدث بالفعل خلال التاريخ؛ إذ إن الطريق الذي سار فيه العلم ظل منفصلا عن ذلك سار فيه الفن، ولم يحدث بينهما التقاء إلا في الحالات التي حاول فيها الفن أن يتخذ من العلم موضوعا له، كما في روايات الخيال العلمي
Science Fiction
أو الموضوعات التي أوحى بها ارتياد الفضاء للفانين في مجالات متعددة، وهي حالات نستطيع أن نعدها هامشية محدودة الأثر، أو في الحالات التي حاول فيها العلم أن يخوض ميدان الإبداع الفني لكي يدرسه دراسة منهجية منظمة، وهي حالات أهم بكثير، وتستحق أن نتوقف عندها قليلا.
ذلك لأن أهم ما يتصف به الإنسان ويتميز عن سائر الأحياء هو أنه مخلوق مبدع، وسواء فهمت كلمة الإبداع هنا بالمعنى الضيق، الذي ينصب على الخلق الجديد في ميادين الفن والعلم، أو بالمعنى الواسع، الذي يتعلق بأي تجديد يدخله الإنسان على جوانب نشاطه مهما كان محدودا، فإن الأمر المؤكد هو أن الإبداع هو الذي أتاح للنوع الإنساني - على وجه التحديد - فرصة الارتقاء والتقدم المستمر، وهو الذي أنقذ الإنسان من المصير الذي آلت إليه الأنواع الحيوانية كلها، وهو التجمد عند حدود وظائف معينة تؤدي إلى نحو آلي بحت، دون أي تنويع أو تجديد ودون أية قدرة على تطوير هذه الوظائف أو نقل الخبرات المكتسبة منها إلى الآخرين. وهكذا فإن العلم حين يحاول الالتقاء بالفن من خلال دراسة عملية الإبداع، إنما يقترب في الواقع من المنبع الأصيل للكائن البشري، ويستكشف آفاق العملية التي يتميز بها الإنسان بما هو إنسان. بل إنه يستكشف جذوره العميقة (أعني جذور العلم ذاته)؛ لأن الإبداع له دوره الحاسم في الكشف العلمي بدوره.
على أن الدراسة العلمية للإبداع ما زالت في أولى مراحلها. وليس لنا أن ندهش على الإطلاق حين نجد العلم يرجئ دراسة هذا الميدان العظيم الأهمية ولا يبدؤها إلا منذ عشرات قليلة من السنين؛ ذلك لأن هذه من أعقد الدراسات التي يتصدى لها العلم، إن لم تكن أعقدها على الإطلاق، فهي تتعلق بذلك الميدان المحاط بالأساطير والمغلف بالغموض؛ أعني بتلك القوة الخفية التي بفضلها يتمكن أشخاص معينون من أن يتجاوزوا مستوى البشر الآخرين، ويخلقوا شيئا جديدا يحشدون له طاقتهم الروحية ما يعجز عنه سائر الناس. هذه القوة التي لم تملك العصور السابقة إلا أن تعترف بعجزها عن فهمها، فأطلقت عليها اسم «العبقرية» أو «الموهبة»، وصورت من يمتلكها بأنه شخص به مس من «الشيطان» أو على أحسن الفروض بأنه شخص «ملهم» - وكلها ألفاظ تخفي بسذاجة جهلنا بالظاهرة نفسها - هذه القوة الشديدة التعقيد أصبحت الآن موضوعا لدراسات علمية ينبغي أن نعترف لها بالفضل، ونمتدح فيها تلك الشجاعة التي أتاحت لها أن تقتحم هذا الميدان المستعصي على الفهم، وإذا كانت هذه الدراسات لم تسفر حتى الآن عن الكثير، ولا يتوقع لها أن تصل في المستقبل القريب إلى نتائج مدوية، فإن هذا لا يمنع من الاعتراف بالأهمية القصوى لتلك المحاولات التي يسعى بها العلم إلى الالتقاء بالفن، وهي محاولات ستكشف أهم أسرار الإنسان حين يقدر لها النجاح.
على أننا إذا استبعدنا محاولات الالتقاء هذه - التي هي في أحد جانبيها محدودة النتائج، وفي جانبها الآخر ما زالت تحبو في أول الطريق - فسوف نجد الفن والعلم يسيران في طريقين منفصلين. وهذا التباعد راجع إلى العوامل التي عددناها من قبل، التي كشفت لنا عن وجود اختلافات أساسية في طبيعة هذين النوعين من النشاط الإنساني. •••
ولكن هل صحيح أن الاختلافات بين السعي إلى الحقيقة العلمية والسعي إلى الجمال الفني أساسية إلى الحد الذي يتصورها به الناس عادة؟ وهل هي من الحدة بحيث لا تسمح لنا بالجمع بين الطرفين والكلام عن «حقيقة فنية»؟ إن البحث المتعمق للفوارق التي أوردناها في مستهل هذا البحث، يكشف لنا عن وجود نقاط تشابه لا يستهان بها، بين الحقيقة العلمية والجمال الفني، والواقع أننا حين أكدنا هذه الفوارق في البداية إنما كنا نعرض وجهة النظر الشائعة في الاختلاف بين العلم والفن، وعلى الرغم من أن وجهة النظر هذه صحيحة إلى حد بعيد، فمن الممكن بمزيد من التفكير المتعمق أن نعيد تفسير كثير من عناصر الاختلاف السابقة؛ بحيث نهتدي إلى نقاط التقاء هامة بين هذين الميدانين.
صفحه نامشخص