1
إن الإنسان - حين أكد ذاته بوصفه كائنا حرا - قد اختار طريق المعرفة والعلم؛ ففي فعل المعرفة إذن تكمن حرية الإنسان، وبقدر ما يتوافر لدى الإنسان من المعرفة يكون حرا، تلك هي الدلالة التي يستخلصها «أريك فروم» من قصة طرد آدم من الجنة، وهي دلالة لها أهميتها الخاصة بالنسبة إلى موضوعنا. وليس يعنينا هنا أن هذا الفعل الحر - الذي اختار به آدم لنفسه طريق المعرفة - قد أدى إلى طرده من الجنة، فمن المعترف به أن طريق المعرفة شاق، محفوف بالمخاطر والآلام، وأن المسئولية التي يحملها على أكتافه من يريد الوصول إلى علم بالأشياء مسئولية ثقيلة فادحة؛ وبذلك يكون الإنسان قد اختار عذابه - أي خرج من الجنة - في نفس الوقت الذي اختار فيه لنفسه، بحرية، طريق المعرفة. ولكن المهم في الأمر أن أول فعل حر للإنسان كان فعلا غايته العلم، وأن هذا الفعل كان يشكل تحديا لله وعصيانا له؛ أي إن الإنسان كان يعلم أنه بسلوكه هذا الطريق كان يريد - بمعنى معين - أن يشارك الله في إحاطته بالأشياء علما.
على أن القصة الدينية التي تتحدث عن الفعل الحر الأول للإنسان لم تكن هي الموضع الوحيد الذي ربطت فيه العقائد الدينية بين الحرية وبين العلم - بمعنى المعرفة - بل إن فكرة الثواب والعقاب - وهي فكرة مشتركة بين العقائد السماوية جميعا - كانت تفترض مقدما وجود حرية اختيار لدى الإنسان بين الخير والشر، وهذه الحرية ترتبط ارتباطا وثيقا بالمعرفة؛ إذ إن الله أعطى الإنسان معرفة الخير والشر، ووهبنا إرادة - ترك لنا حرية التصرف - لكي يصدر حكمه علينا فيما بعد، ولولا هذه الحرية وتلك المعرفة لكانت المسئولية أمام الله مستحيلة، ولما كان هناك معنى للعقاب والثواب. وهكذا يبدو أن فكرة الحرية ترتبط بالعلم هنا ارتباطا مزدوجا: فحرية الإنسان ومسئوليته أمام الله تفترض معرفته الكاملة بما هو خير وما هو شر، واختياره أحدهما اختيارا واعيا مقصودا، ومن جهة أخرى فإن العلم الإلهي بنوايا الناس وبأفعالهم الظاهرة والباطنة هو الذي يضمن عدالة الثواب والعقاب في العالم الآخر؛ وعلى ذلك فإن حرية الإرادة ترتبط بالعلم الإلهي والعلم الإنساني معا، وبدونهما لا تبلغ نتائجها الكاملة.
وربما كانت المذاهب الدينية التي تنكر الحرية وتؤكد القدرية تبدو متعارضة مع مبدأ الارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأنها تعني أن كل ما يحدث في حياة الإنسان إنما هو قدر مكتوب مقدما، وأن طريقة فعلنا لن تؤثر على الإطلاق في المجرى الذي تسير فيه الحوادث، وأن الله قد حدد منذ البداية المسار الكامل لحياة الإنسان؛ بحيث لا تكون حرية الإنسان في التصرف إلا وهما كبيرا. وبالمثل فإن معرفة الإنسان لن تقدم ولن تؤخر؛ لأن أقصى ما يستطيع عقل الإنسان أن يفعله هو أن يمتثل لحكم القدر. ومع ذلك فليس من الصعب أن يدرك المرء في هذا المذهب القدري تأكيدا - عن طريق السلب - للارتباط بين الحرية والعلم؛ ذلك لأن انتفاء تأثير المعرفة مرتبط في هذا المذهب بانعدام الحرية؛ أي إن الإنسان حين لم يعد حرا لم يبق لمعرفته أي أثر في مصيره. أما إذا نظرنا إلى هذا المذهب من زاوية المسلك الإلهي، فسوف نجد أن الله فيه هو الكائن الحر الوحيد، فإذا ما بحثنا عن السبب الذي يدعونا إلى نسبة هذه الحرية إلى الله في المذاهب القدرية؛ لوجدنا أنه هو العلم؛ فبفضل العلم الإلهي - الذي يحيط بكل شيء ويدرك المجرى الكامل للحوادث المقبلة - يكون الله وحده هو الحر. وبعبارة أخرى: فإن مذهب القدرية ينطوي - بصورة ضمنية غير مصرح بها - على تعريف للكائن الحر بأنه هو ذلك الذي يحيط علمه بمجرى الحوادث وبأسباب حدوثها، ويرى أن هذا التعريف يستحيل انطباقه على الإنسان، ولا ينطبق إلا على الله. وهكذا تبدو فكرة القدرية منطوية ضمنا على تأكيد للربط بين العلم والحرية.
فإذا ما تركنا المجال الديني جانبا، وانتقلنا إلى التاريخ الفكري الدنيوي، لم يكن من الصعب أن ندرك وجود ارتباط مماثل بين الحرية والعلم في عصور الفكر المختلفة. وحسبنا أن نضرب لذلك أمثلة قليلة؛ إذ إننا سنناقش هذا الموضوع فيما بعد بمزيد من التفصيل، من حيث هو مشكلة فكرية. أما الآن فإن هدفنا لا يعدو أن يكون تقديم عرض تاريخي سريع للربط بين العلم والحرية.
في العصر اليوناني الكلاسيكي اتخذ مفهوم الحرية الشخصية في بداية الأمر معنى خارجيا لم يكن من الصعب أن يكون فيه مرتبطا بمفهوم العلم؛ فالشخص الحر عند اليونانيين كان هو المواطن الذي يتمتع بمركز اجتماعي معين، يؤهله لأن يتصف بصفات خاصة كالحكمة والكرم والشجاعة. والأمر الذي يتيح للحر اكتساب هذه الصفات، هو أن العبيد يعفونه من أعباء الأعمال الاقتصادية المرهقة؛ بحيث يستطيع التفرغ لرعاية جسمه وعقله، والتمتع بثمار المعرفة؛ فالحرية إذن كانت في الأصل صفة قانونية يكتسبها المرء بحكم وضعه في المجتمع. ولكن هذه الصفة القانونية كانت تؤدي بصاحبها إلى اكتساب القدرة على ممارسة أرقى أنواع المعارف العلمية التي عرفها العصر اليوناني، وهي العلم الرياضي والفلسفة بوجه خاص، ولم يكن من العسير على كثير من مؤرخي الفكر الفلسفي أن يثبتوا أن التفوق الكبير الذي أحرزه اليونانيون في الرياضة والفلسفة كان يرجع جزئيا - على الأقل - إلى انتشار نظام الرق، الذي أتاح للمفكرين من الوقت ومن الراحة الجسمية والذهنية ما مكنهم من التفرغ لتلك المهام العقلية الرفيعة. وبعبارة أخرى: فإن العلم الذي ورثته البشرية عن اليونانيين كان مرتبطا إلى حد بعيد بذلك النوع الخاص من الحرية الذي كان سائدا بينهم؛ أعني حرية المواطن، في مقابل العبودية التي يضيع فيها العلم والحكمة مع ضياع الحرية.
وقد طرأ فيما بعد نوع من التعديل على معنى الحرية عند اليونانيين، فانتقل هذا المعنى إلى داخل النفس الإنسانية بعد أن كان مجرد تعبير عن وضع قانوني معين، أصبحت الحرية هي التخلص من عبودية الانفعالات ومن سيطرة الظروف الخارجية. وكان وجه الاختلاف بين هذا المعنى الجديد القديم هو أن العبد ذاته يمكن أن يكون حرا بالمعنى الجديد؛ ولذلك إذا استطاع أن يقهر انفعالاته ويمتنع عن الانسياق وراء أهوائه، وإذا أمكنه أن يتحكم في الظروف الخارجية مهما كانت معاكسة أو مؤلمة. ولكن على الرغم من هذا التعبير الهام الذي طرأ على معنى الحرية، فقد ظلت في الحالة الثانية بدورها مرتبطة بالعلم؛ إذ إن المعرفة وفهم الضرورة السائدة في الكون، هي التي تتيح للمرء أن يقهر انفعالاته ويعلو عليها، وينظر إلى كل ما يمر به من حالات نفسية طارئة في ضوء الضرورة الكونية الشاملة؛ وبذلك يكون الحكيم أو العارف - فيما رأى الرواقيون الذين انتشر بينهم هذا اللون من التفكير - هو وحده الحر.
على أن هذه الحرية - كما هو واضح - لا يمكن أن تتحقق إلا لفئة محدودة من الناس، وهي - بحكم تعريفها - حرية ضيقة النطاق، ولا تتوافر إلا لمن كان لديهم من الوسائل ما يعينهم على التفرغ للعلم واكتساب المعرفة، أو من ضبط النفس ما يتيح لهم التحرر من الانفعالات. وهكذا كان مفهوم الحرية عند اليونانيين مقتصرا بطبيعته على فئة قليلة. وكان «هيجل» على حق حين تحدث عن مراحل ثلاث لفكرة الحرية على مر التاريخ البشري: حرية الفرد الواحد في عهود الطغيان القديمة، وحرية الأقلية في العصر اليوناني المرتكز على نظام الرق، وحرية المجموع في العصر الحديث.
ولكن من المعروف أن «هيجل» حين تحدث عن العصر الحديث، كان يعني الأمة الألمانية على وجه التخصيص. وكان يتصور - على نحو لا يخلو من الصوفية الغامضة - أن هذه الأمة هي وحدها التي تحقق فيها حلم الحرية الشاملة بين مجموع الناس، وبطبيعة الحال لم يكن لرأي «هيجل» هذا أي أساس من الدراسة الاجتماعية الفعلية، ولم يكن مبنيا على فهم للواقع الذي كانت تعيش فيه الأمة الألمانية في عصره، والذي كان أبعد ما يكون عن الحرية الشاملة. بل إنه ليمكن القول: إن الحرية الشاملة ما زالت هدفا بعيدا عن التحقيق في جميع أرجاء عالمنا المعاصر. فهل يعني ذلك أن عبارة هيجل السابقة بعيدة كل البعد عن الصواب في شطرها الأخير الذي يتحدث فيه عن شمول الحرية في العصر الحديث؟
والواقع أن هذه العبارة يمكن أن تصدق إذا استبعدنا منها أية إشارة إلى الأمة الألمانية بالذات، وطبقناها على العصر الحديث بأكمله، وإذا لم نأخذها على أنها تعبير عن أمر واقع، بل نظرنا إليها على أنها مثل أعلى يسعى العصر الحديث إلى تحقيقه؛ ذلك لأن العصر الحديث - وإن لم يكن قد حقق الحرية الشاملة - يتخذ من حرية المجموع هذه هدفا لكل ما يبذله في هذا السبيل من جهود، وهو في ذلك يختلف اختلافا جذريا عن العصر الكلاسيكي الذي لم يكن يتصور إلا نوعا من الحرية يستحيل أن يكتسبه إلا فئة قليلة من البشر. صحيح أن الإنسان في العصر الحديث بعيد كل البعد عن تلك الحرية التي يحلم بها، وأن هناك مجتمعات كاملة تعيش في ظل نظم لا تسمح - من حيث المبدأ - بتحقيق الحرية للجميع. ومع ذلك فإن الهدف المعلن عنه - حتى في هذا النوع الأخير من المجتمعات - هو حرية المجموع، وهو هدف لم يكن من الممكن أن ينادي به أحد في العصور القديمة، فما سبب هذا التغير الجذري في نظرتنا إلى الحرية؟ وما هي الظروف التي ساعدت على اتخاذ الحرية الشاملة شعارا لا تجرؤ على إنكاره حتى تلك النظم التي لا تتلاءم بطبيعتها إلا مع نوع محدود من الحرية، أو مع نوع شامل من الاستبداد؟
صفحه نامشخص