ثم انقضت الإجازة، وجعلت أختلف إلى السربون، فسمعت درس اللاتينية وظفرت بثناء الأستاذ، وخرجت. ولكني لم أذهب إلى بيتي، وإنما ذهبت إلى حيث ألقى إلين، وقد لقيتها، وأنفقت معها اليوم بعيدا عن باريس في غابة من هذه الغابات الجميلة القريبة، ثم عدنا ولم نفترق إلا لنلتقي بعد قليل، وأنا أختلس هذه الدقائق لأكتب إليك، ولأظهرك من أمري على أطوار هذا المرض الذي يسعى إلي، أو يسعى في سعيا حثيثا، وثق بأن السربون لن تراني غدا ولا بعد غد، بل ثق بأني لا أعلم متى تراني السربون.
وداعا يا سيدي، إني لأرى شبح الجنون بغيضا مزعجا، ولكني مع ذلك لا أهابه ولا أتأخر عنه، وإنما أقدم عليه إقدام المحب الجريء، وكيف أحجم عن الجنون وقد اتخذ لنفسه صورة إلين!
18
يوليو في ...
لم يكن الامتحان عسيرا، ومع ذلك فقد أخفقت فيه أجمل إخفاق وأروعه، هذا الإخفاق الذي لا يظفر الطالب فيه بدرجة أو بعض درجة، وإنما يظفر فيه بالصفر المريح، ولن تعلم الجامعة من أمر هذا الامتحان شيئا؛ فقد تقدمت إليه سرا، فلن أؤدي لها حسابا عن مال لم تنفقه وأمر لم تحط به علما. لم أكن أشك في الفوز؛ فقد وعدني به أستاذي الخاص الذي أتعلم عليه اللاتينية، ووعدت نفسي به وتهيأت له كأحسن ما يتهيأ طالب للامتحان، ولكن أدركتني نوبة المرض أو نوبة اللهو - إن أردت الدقة في التعبير - قبل موعد الامتحان بأسبوعين، فقضيت هذين الأسبوعين مع إلين، نهيم في الغابات إذا كان النهار، ونطوف على الحانات إذا كان الليل، ولا نلم بالبيت إلا مطلع الفجر.
كانت إلين تذكرني بموعد الامتحان، وتحذرني عاقبة هذا الجنون، وتصور لي جمال الفوز، وتمنيني تلك الأيام الجميلة التي سننفقها بعيدا عن باريس إذا كان الصيف، ولكني كنت أعرض عنها أشد الإعراض، وأزجرها أشد الزجر. فقد كان شيطان اللهو قد ملأ قلبي ونفسي وركب كتفي.
ثم أصبح يوم الامتحان فلا أتردد في الذهاب إلى السربون ولا في دخول حجرة الامتحان، وآخذ النص اللاتيني فأقرؤه وأقرؤه، ثم أقرؤه وأقرؤه، فلا أفهم شيئا ولا أصنع شيئا. وأنا أبذل جهدا عقليا عنيفا لعلي أوفق لفهم جملة أو بعض جملة، فإذا لم أظفر بشيء رددت النص كما أخذته، وانصرفت إلى بيتي راضيا محزونا معا. ثم لا أكاد أخلو إلى هذا النص بعد ذلك بساعة أو ساعتين حتى أفهمه في غير مشقة وأترجمه في غير جهد، وأستوثق من أني كنت خليقا أن أفوز، وإذا قلبي يمتلئ سرورا وبهجة، وإذا أنا أسرع إلى إلين فأنبئها بأني جمعت بين الفوز والإخفاق معا.
وداعا يا سيدي! سأنجح في نوفمبر إذا لم يدركني الشيطان، فأما الآن فإلى اللهو، إلى اللهو المجنون الذي لا يعرف رفقا ولا مهلا ولا تفكيرا، إلى اللهو حتى يضعف العقل والجسم معا، وحتى أضطر إلى الراحة ثم إلى الجد اضطرارا.
19
سبتمبر ...
صفحه نامشخص