أغسطس في ...
أحسست كأني أسمع صوتا يناديني من بعيد، كأني أدنو من هذا الصوت، أو كأنه يدنو مني شيئا فشيئا. واستمر هذا الحس لحظة لست أدري أطالت أم قصرت، ولكني وجدتني قد قربت من الصوت أو قد قرب الصوت مني، فإذا هو بين يدي، وإذا أنا أسمع طرقا على الباب، وإذا أنا أصيح دهشا أو كالدهش بلغتي العربية الشعبية: «مين؟» وإذا الباب يفتح، وإذا شخص يدخل خفيفا رشيقا سريع الحركة، سريع الكلام، وإذا هو يقول في صوت امرأة: لقد أشفقت عليك، ولقد حسبت أنك لا تفيق، وإذا هو يسرع إلى النافذة فيجذب عنها الأستار ويفتحها ويأذن للشمس بالدخول. وأنا دهش ذاهل، أدعو لنفسي وأجمعها فتجتمع لي، وأنظر وأشعر فإذا أنا في غرفة الفندق التي أويت إليها أمس حين تقدم الليل، وإذا الخادم قد أقبلت تحمل إلي طعام الإفطار، وإذا النهار قد تقدم حتى بلغ النصف أو كاد يبلغه، وإذا أنا أثوب إلى نفسي وأذكر من أمري ما كان قد ذاده النوم عني، فأعلم أني قد بلغت مرسيليا أثناء الليل أمس، وأني كنت متعبا مكدودا لكثرة ما أرقت، وأني ذهبت إلى أول فندق دلني عليه ذلك الذي حمل أمتعتي ووضعها ووضعني معها في عربة وأخذ مني ما أعطيته من نقد وقال للسائق: إلى فندق جنيف. وقد بلغت الفندق بعد الساعة العاشرة، فلم أقبل طعاما ولا شرابا، ولم أزد على أن أجبت على ما وجه إلي من أسئلة لم يكن منها بد، وطلبت غرفة آوي إليها، وأنبأت أني سأسافر من الغد إلى باريس، ثم لم أكد أبلغ الغرفة حتى خرجت من ثياب ودخلت في ثياب، وأويت إلى السرير مسرعا أتمنى لقاء النوم وأشفق كل الإشفاق ألا ألقاه، ولكني لم أكد أنزلق في هذا السرير الوثير حتى أحسست راحة وهدوءا ودعة لم أعهدها قط، فأين هذا السرير الوثير الذي أتقنت تسويته مما ألفت في دارنا في ريف مصر، أو في بيتي في القاهرة، من هذا الفراش الخشن الغليظ. لقد خيل إلي أني لا أنام على شيء أو أني أنام على فراش من الزئبق، كان جسمي يضطرب في هذا السرير فلا يجد شيئا يقاومه أو يثبت له، إنما كان يغوص في الفراش غوصا، ولم أكد أطيل التفكير في هذا، ولم أفرغ للتفكير في غير هذا مما شغلني آخر أيامي في القاهرة وأكثر أيامي وليالي في السفينة، وإنما أخذت أفقد نفسي قليلا قليلا، ثم لم أشعر إلا بهذا الصوت الذي كان يدعوني من بعيد والذي لم أكد أرد عليه حتى فتح له الباب، وإذا أنا أرى هذا الشخص الرشيق.
والآن قد دخلت الشمس هذه الغرفة فغمرتها، وردت علي اليقظة حسي كله وشعوري كله، وذكرت في لحظة قصيرة جدا كل ما أنبأتك به أيها الصديق، أنظر فأرى الخادم ذاهبة جائية، تهيئ طعامي على المائدة وتدني هذه المائدة من السرير، فأخرج من غفلة النوم لأدخل في غفلة الذهول، فأين أنا؟ وما هذا الحرص على تيسير الأمور كلها لي؟ من زعم لهؤلاء الناس أني في حاجة إلى عنايتهم هذه الدقيقة، وإلى رفقهم هذا الغريب؟ هذا السرير الوثير، وهذه الخادم تحمل الطعام إلي وتفتح النافذة وتدني مني المائدة لأفطر في سريري، أتراهم ظنوا أني مريض! فما أحسب أنهم ظنوني غنيا من كبار الأغنياء، فما كان وجهي لينبئ بذلك، وما كان شكلي ليدل عليه.
والفتاة تتحدث، وتتحدث والحديث ينبعث من فمها حلوا عذبا رقيقا، أحاول الآن أن ألتمس له تشبيها فلا أظفر بما ألتمس، وإنما أصور لك الشعور الذي وجدته حين كان يصل هذا الحديث إلي ويغمرني فيملؤني دعة وراحة ولذة وهدوءا، كنت أشعر كأن نسانا يرسل إلي نفحات متصلة من الطيب تأخذني من كل مكان، وكنت أحاول أن أرد عليها بعض الحديث فلا أجد إلى ذلك سبيلا؛ لأنها لم تكن تمكنني من ذلك من جهة، ولأني لم أكن أريد أن أقطع هذه اللذة من جهة أخرى. حتى إذا هيأت لي كل شيء ودعتني إلى الطعام همت أن تنصرف، فرد إلي الرشد، وثبت إلى نفسي وسألتها مترددا متلهفا: أين تذهبين؟ قالت ضاحكة: أذهب إلى عملي، قلت: وما عملك ومن تكونين؟ أوليس من عملك أن تمكثي معي حتى أفرغ من طعامي؟ قالت وهي تغرق في الضحك: وأما عملي فهو هذا الذي رأيت والذي ترى، أما أن أمكث معك حتى تفرغ من طعامك فليس من عملي وليس إليه من سبيل، وماذا تكون الحال لو أني مكثت مع كل من أحمل إليه الطعام من أهل الفندق حتى يفرغ من طعامه؟ ثم أرسلت إلي نظرة فيها دعابة وابتسامة يملؤها الظرف، ومضت مسرعة لا تمشي على الأرض وإنما تمشي في الهواء، ثم أغلقت من دونها الباب وتركتني ذاهلا كالأبله أمام هذا الإفطار الذي تركته وقتا غير قصير معرضا عنه إعراضا، ثم ناظرا إليه دون أن أقدم عليه.
وإني لفي ذلك وإذا الباب يطرق، فآذن، فتدخل الفتاة نفسها قد أقبلت تحمل آنية الطعام. فإذا رأت كل شيء كما تركته منذ حين سألتني دهشة عن أمري، فأسرع إلى الطعام ضاحكا وأنا أقول: ألم أطلب إليك أن تمكثي معي حتى أفرغ من الإفطار؟ لقد أبيت فلم أفطر، وها أنت ذي تعودين، فانظري كيف أسرع إلى الطعام.
وكنت مزمعا أن أسافر مع المساء إلى باريس، ولكني لا أدري لم غيرت رأيي، أو لعلي أدري لم غيرت رأيي! فقد قضيت في القاهرة أياما ثقالا وأجهدني عبور البحر لكثرة ما فكرت وقدرت ولكثرة ما أرقت، وليس ما يدعوني إلى أن أسرع إلى باريس، فليس الفصل فصل درس، واللغة الفرنسية موجودة مسموعة حيثما وجهت من أرض فرنسا، فما يمنعني أن أقيم في هذا الفندق الجميل المترف أياما أعود نفسي فيه حياة الفرنسيين، وآخذ نفسي بما لا بد من أن آخذها به من العادات والتقاليد حتى لا أظهر غريبا مضطربا حين أصل إلى العاصمة؟ وما يمنعني أن أعود نفسي العبث في مياه البحر على الساحل قبل أن أبعد في السباحة وقبل أن أضطر إلى مصارعة الأمواج الضخام! لأمكث إذا في هذه المدينة أياما أستمتع فيها بالراحة وأتمرن فيها على الحياة الجديدة، وأنعم فيها بدخول هذه الفتاة علي تحمل الإفطار إلي إذا أصبحت، فمن يدري أين يكون مستقري في باريس! أأجد غرفة كهذه الغرفة، وسريرا كهذا السرير، وفتاة كهذه الفتاة تحمل إلي الطعام في كل صباح؟ وهذه المدينة وسط بين الجو الأوربي الخالص والجو الإفريقي الخالص، فهي على البحر الأبيض المتوسط، وفي الانتقال المفاجئ من جو إلى جو خطر على صحة الجسم، وقد يكون فيه خطر على صحة النفس أيضا. فلأصطنع الأناة، ولأدع هذه العجلة فإنها لا شك من الشيطان، وما يمنعني أن أستأني وقد تركت مصر وجعلت من بينها وبيني بحرا عريضا، فلست أخاف على البعثة، ولست أخشى أن أرد عن باريس.
وكذلك خلقت لنفسي أيها الصديق من التعلات والمعاذير ما أقنعني بأن الإسراع إلى باريس خطل وحمق، وما حملني على أن أنبئ أصحاب الفندق بأني سأقيم أياما، وعلى أن أقدم على الكذبة الأولى في حياتي الجديدة فأكتب إلى مراقب البعثة بأني متعب محتاج إلى الراحة، وبأني سأبلغ باريس بعد أسبوع.
والغريب أني قضيت النهار هادئا مستريحا، لا أكاد أفكر فيما تركت ولا فيمن تركت ورائي قبل أن أعبر البحر، ولا أكاد أشعر بشيء من هذا الألم أو هذا الندم اللذين كانا يثقلان علي في السفينة، واللذين صورتهما لك تصويرا مخيفا في آخر كتبي إليك، واللذين كنت أظن أنهما سيلزمانني لزوم الظل. لم أكد أشعر بشيء منهما، ماذا أقول! بل لم تتراء لي صورة حميدة إلا مرتين أو مرات قليلة، وكانت تتراءى لي من بعيد شاحبة الوجه كاسفة البال بادية الحزن، ولكني كنت أراها مسرعة كأنها لا تريد أن تقف عندي ولا أن تثبت لي.
وهأنذا أكتب إليك بعد أن عدت إلى غرفتي وقد كاد يبلغ الليل نصفه، ونظرت فإذا الغرفة قد هيئت لاستقبالي، وإذا السرير قد هيئ لإيوائي، وإذا دورق من الماء وكوب قد وضعا على هذه المائدة الصغيرة التي تلي السرير، ما شاء الله! ما تعودت مثل هذه العناية. ولقد كان الظمأ يوقظني في الريف، ولقد كان الظمأ يوقظني في القاهرة، فما كنت أجد إلى اتقائه سبيلا إلا أن أتكلف النهوض والسعي إلى حيث وضعت هذه الجرار الصغيرة التي كانت تبرد لنا الماء، فأما الآن فإن الظمأ يستطيع أن يهجم علي وأن يوقظني، فسأعرف كيف أرده ردا، وكيف أعود إلى النوم كما خرجت منه لا أجد في ذلك جهدا ولا عناء.
على أني لم أكد أرى هذا الدورق وأفكر فيما كان يعتادني من الظمأ في مصر حتى أحسست الظمأ، فأصب شيئا من الماء أحسوه في هدوء، ولكن ماذا! إنه لا يرد عني ظمأ ولا ينقع لي غلة، وإني لا أجد له لذة حين أحسوه، ولكني أذكر قصة الأخطل وحديثه حين عرض عليه الماء في مجلس عبد الملك فقال: شراب الحمار.
صفحه نامشخص