وكان عبد الشكور أذكى من أبيه؛ فكان يشتري القطن من الموزعين بثمن، بخس ولا ينتظر حتى موعد المحصول، وإنما يبيع ما اشترى بأسرع ما يمكن إلى أثرياء القرية الذين كان يطمعهم في رخص الثمن بزيادة الكمية التي سيبيعونها في الموسم، مدركين أنه كلما كبرت الكمية ارتفع السعر الذي سيعرض عليهم.
ولم يكن عبد الشكور أمينا في محاسبة أبيه؛ فاستطاع أن يشتري الكتب التي يحتاجها بجهد جهيد. ولكن الخطة نجحت على كل حال، على الأقل بالنسبة لعبد الشكور؛ فهو لم يكن يطمح إلى الغنى - لا قدر الله - في هذه المرحلة من حياته؛ وإنما كان أمله كله أن يتقن اللغتين حديثا وكتابة.
وتم له ما أراد في سنوات لم يكن فيها يضيع لحظة متاحة أو غير متاحة لدراسة اللغتين، وأتقن أيضا معهما تجارة القطن والسمسرة فيه.
بل تعلم شيئا لم يخطر له ببال؛ فقد علمه الألمانيان المتحضران آداب المائدة وكيف يستعمل أدواتها بمهارة لا تتأتى إلا لمن كان في بيتهم مائدة وخدم أيضا.
وحين أحس أنه قادر أن يواجه الحياة وفي لسانه ويده هاتان اللغتان مع خبرة التجارة قال لأبيه: أنا يابا سأسافر إلى مصر. - ماذا تعمل بها؟ - أبحث عن وظيفة. - ومن أين لك وأنا لم أترك ثقب إبرة إلا حاولت فيه أن أجد لك عملا، ولكن الطرق جميعها سدت أمامي وأمامك. - أنا أعرف طريقي. - وطبعا تريد مني مالا. - معي. - من أين؟ - مما كسبته في هذه السنوات. - إذن لن تكلفني شيئا. - على الإطلاق. - مع السلامة. - سلمك الله. - ولكن اسمع! - أمرك. - حين تستقر أرسل إلي بعنوانك حتى أعرف طريقك؛ فأنا ليس لي غيرك، ويعلم الله يا بني أني ما بخلت عليك، ولكن العين بصيرة واليد قصيرة. - أعلم يا أبي. ولولا أنك ساعدتني ما استطعت أن أجمع القرشين اللذين سأذهب بهما إلى مصر. - كان أبي بخيلا، ولكني لم أكن معك بخيلا، وإنما كنت عاجزا. - يابا أنا أعرف ذلك. - أنا لا أريد منك شيئا حتى يفتحها الله عليك. كل ما أريد منك ألا تحمل معك في سفرك وغربتك غضبا علي؛ فالله وحده يعلم كم أحبك؛ فأنت كل أملي في الحياة، ولا أعيش إلا لك. - يابا أنت لا تحتاج إلى هذا الحديث. وسترى حين يكرمني الله كيف سأرد لك المعروف. - أنا لم أمنعك من الدراسة الجامعية بخلا وإنما عجزا. - أعلم يا أبي. وأنت لا تحتاج إلى هذا الكلام. •••
وحين أخبر عبد الشكور مارك وهوفمان بانتوائه السفر قال مارك: متى؟ - في أقرب وقت.
والتفت مارك إلى هوفمان وقال له: هوفمان، إننا الآن معنا ثمن تذاكر الطائرة. - نعم. - فما بقاؤنا؟ - وماذا تريد أن تفعل؟ - نسافر مع عبد الشكور. - وماذا نفعل؟ - نذهب إلى السفارة الألمانية وهي كفيلة بأن تعيدنا إلى ألمانيا. - أي ألمانيا، الشرقية أم الغربية؟ - الغربية. - ألا تخشى أن يقبض علينا الإنجليز؟ - وماذا يصنعون بنا؟! الحرب انتهت، وتم تقسيم ألمانيا، واستقرت الأمور. - فإن جرت الأمور بما لا نريد؟ - إذا كنا وجدنا رزقنا في شقلبان فمن المؤكد إننا لن يصعب علينا أن نجد رزقنا في محلات النجارة والميكانيكا والكهرباء في القاهرة.
وقال هوفمان لعبد الشكور: ما رأيك؟ - الفكرة جيدة. - أترى ذلك؟
وقال عبد الشكور: نستأجر ثلاثتنا حجرة في القاهرة، ونعيش معا حتى تجدا وسيلة للسفر أو تجدا عملا. - وأنت ماذا ستفعل؟ - لا تخافا علي أنا أعرف طريقي كل المعرفة. - متى نسافر؟ - أليست النقود جاهزة. - طبعا. - نسافر غدا في الفجر. - وهو كذلك. - وهو كذلك.
الفصل الثالث
صفحه نامشخص