47

ثم قام حاجب بن زرارة التميمي، قال: ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها، واستحصدت مرتها، ومنعت درتها. وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لاينتها، سامعة ما سامحتها، وهي العلقم مرارة، وهي الصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال سلاسة. نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك. ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا فينا سامعة مطيعة. إن نؤب لك حامدين خيرا فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم نخص بالذم دونها. قال كسرى: يا حاجب، ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها. قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها. قال كسرى: وذلك.

ثم قام الحارث البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها! من طال رشاؤه كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف اللب، وهذا مقام سيوجف بما تنطق به الركب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب. ونحن جيرانك الأدنون، وأعوانك المعينون. خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة. إن استنجدتنا فغير ربض، وإن استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض. لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر. رماحنا طوال، وأعمارنا قصار. قال كسرى: أنفس عزيزة، وأمة ضعيفة. قال الحارث: أيها الملك، وأنى يكون لضعيف عزة، أو لصغير مرة؟! قال كسرى: لو قصر عمرك لم تستول على لسانك نفسك. قال الحارث: أيها الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة مغررا بنفسه على الموت، فهي منية استقبلها، وجنان استدبرها، والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدما وأحبسها وهي تصرف بها، حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضخاضها حتى أنغمس في غمرات لججها، وأكون فلكا لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دما، وأترك حماتها جزر السباع وكل نسر قشعم. ثم قال كسرى لمن حضره من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفدا أحشد، ولا شهودا أوفد.

ثم قام عمرو بن الشريد السلمي فقال: أيها الملك، نعم بالك، ودام في السرور حالك! إن عاقبة الكلام متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملوك سورة العز، وهذا منطق له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل. لم نأت لضيمك، ولم نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك. إن في أموالنا منتقدا، وعلى عزنا معتمدا. إن أورينا نارا أثقبنا، وإن أود دهر بنا اعتدلنا. إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك كافحون، حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر. قال كسرى: ما يقوم قصد منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك.

قال عمرو: كفى بقليل قصدي هاديا، وبأيسر إفراطي مخبرا! ولم يلم من غربت نفسه عما يعلم ، ورضي من القصد بما بلغ. قال كسرى: ما كل ما يعرف المرء ينطق به. اجلس.

ثم قام خالد بن جعفر الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعادا، وأرشده إرشادا! إن لكل منطق فرصة، ولكل حاجة غصة، وعي المنطق أشد من عي السكوت، وعثار القول أنكأ من عثار الوعث، وما فرصة المنطق عندنا إلا بما نهوى، وغصة المنطق بما لا نهوى غير مستساغة، وتركي ما أعلم من نفسي ويعلم من سمعي أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني. وقد أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان! أنفسنا بالطاعة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة. قال له كسرى: نطقت بعقل، وسمرت بفضل، وعلوت بنبل. ثم قام علقمة بن علاثة العامري فقال: نهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد! إن للأقاويل مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج، وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه. إنا وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك، بل لو قست كل رجل منهم وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنيا أندادا وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسؤدد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب النافذ معروف. يحمى حماه، ويروي نداماه، ويذود أعداه. لا تخمد ناره، ولا يحترز منه جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم، فاصطنع العرب، فإنها الجبال الرواسي عزا، والبحور الزواخر طميا، والنجوم الزواهر شرفا، والحصى عددا، فإن تعرف لهم فضلهم يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك. قال كسرى وخشي أن يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه: حسبك، أبلغت وأحسنت.

ثم قام قيس بن مسعود الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب! ما أحقنا إذ أتيناك بإسماعك ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقدا في قلبك، لم نقدم أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي الناس غير مقصرين ، إن جورينا فغير مسبوقين، وإن سومينا فغير مغلوبين. قال كسرى: غير أنكم إذا عاهدتم غير وافين. وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد. قال قيس: أيها الملك، ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر أخفر بذمته. قال كسرى: ما يكون لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة. قال قيس: أيها الملك، ما أنا فيما أخفر من ذمتي أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك وانتهك من حرمتك. قال كسرى: ذلك لأن من ائتمن الخانة، واستنجد الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء، كيف رأيت حاجب بن زرارة لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعد فينجز؟ قال: وما أحقه بذلك وما رأيته إلا لي. قال كسرى: القوم بزل فأفضلها أشدها.

ثم قام عامر بن الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق، وليس القول أعمى من حندس الظلماء، وإنما الفخر في الفعال، والعجز في النجدة، والسؤدد مطاوعة القدرة. وما أعلمك بقدرنا، وأبصرك بفضلنا، وبالحرا إن أدالت الأيام، وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أمورا لها أعلام. قال كسرى: وما تلك الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر. قال كسرى: وما الأمر الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر. قال كسرى: متى تكاهنت يا بن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني بالرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة عينك العوراء، ما أنت صانع؟ قال: ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب عيني عيث ولكن مطاوعة العبث.

ثم قام عمرو بن معديكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه؛ قلبه ولسانه، فبلاغ المنطق الصواب، وملاك النجدة الارتياد ، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقيف الخبرة خير من اعتساف الحيرة، فاجتبذ طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك قيادنا، فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضما، ولكن منعنا حمانا من كل من رام لنا هضما.

ثم قام الحارث بن ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، ومن خطل الرأي خفة الملك المسلط، فإن أعلمناك أن مواجهتنا لك عن ائتلاف، وانقيادنا لك عن تصاف، ما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق، ولكن الوفاء بالعهود، وإحكام ولث العقود، والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو زلل. قال كسرى: من أنت؟ قال: الحارث بن ظالم. قال: إن في أسماء آبائك لدليلا على قلة وفائك، وأن تكون أولى بالغدر، وأقرب من الوزر. قال الحارث: إن في الحق مغضبة، والسرو التغافل، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك مجلسك. قال كسرى: هذا فتى القوم.

ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم، وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم أن الأدب لم يثقف أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على طباعكم؛ لم أجز لكم كثيرا مما تكلمتم به، وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أحنق صدورهم، والذي أحب من إصلاح مدبركم، وتألف شواذكم، والإعذار إلى الله فيما بيني وبينكم. وقد قبلت ما كان في منطقكم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا إلى ملككم فأحسنوا مؤازرته والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم، وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة. (58) قصيدة السموءل في الفخر

صفحه نامشخص