ولما كان الملوك والرؤساء، بما خصهم الله به من أنواع السعادات، يؤثرون السعادات، ويحبون الفضائل، وأهل الفضل، أكثر من غيرهم، ممن دونهم، وجب لذلك أن تكون عنايتهم بتقويم هذه الصناعة، أكثر من غيرهم، لتتضح حقيقتها، ويظهر نفعها للخاص، والعام، فيبين شرفها، فتكون الملوك العانيون بتقويمها، وبكشف حقيقة ما فيها، أعظم نفعا للناس منها، مشكورين، محمودين، من سائر الناس، وعند الله مقدمين، ومنه مثابين. هذا مع ما يخلص لهم من النفع لأجسامهم، والفضل لنفوسهم. وحسب من حصلت له هذه الفوائد شرفا بها، ونفعا منها! وحسب الطبيب هذا الشرف، وهذه المنزلة الجليلة عند الله، وعند أوليائه، وسائر أبناء نوعه، التى لا يفى بها غلاء الجواهر، ولا كثير الأموال!
فأما من لم يكتف بهذه المرتبة العالية من الأطباء، لكنه رغب فى منافسة أهل الدنيا عليها، فطلب جمع الذهب والفضة، وتشاغل بجمعهما عن اكتساب فضائل صناعته، والبحث عن دقيق معانيها، ولطيف أسرارها، فقد بان بذلك جهله بمنزلتها، لأنه باع النفيس بالخسيس، والشريف، الباقى، الدائم، بالحقير، الزائل، الداثر، وانكشف بذلك قلة معرفته بسير أفاضل الأطباء، وبما يؤول إليه حال من رغب فى علم هذه الصناعة، وعمل بعلمها، من الدنيا والآخرة.
فأما جهله بسير أفاضل أهلها، ومخالفته لآرائهم فيها، فيبين بما نذكره من سيرهم فى هذا الباب الآن، وفيما يأتى بعد فى الأبواب الآتية، من سيرهم، وأخبارهم، مع ملوك اليونانيين، وغيرهم، وإن كان ما نذكره قليلا من كثير.
من ذلك ما حكاه جالينوس عن بقراط، لما وجه بعض الملوك إليه بقناطير كثيرة من الذهب، وبذل له كرامات كثيرة، ليصير إليه، ولم يكن ذلك صوابا عنده، لضرب من السياسة، فكبرت نفسه عن ذلك، ولم يلتفت إليه.
ومن ذلك أيضا 〈أن〉 جالينوس لما سلك طريق صناعة الطب، فى علاجه برومية لأولاد يمس الفيلسوف، ولابن خاريلمبس، صاحب المراقد، ولغيرهما، ممن شفاهم الله على يديه، وبان فضله، وعرف قدر منزلته من الصناعة، فحسده أطباء رومية، وأخذوا فى عناده، فلم ير مقاومتهم، وسلوك طرقهم، ولا التفت إلى مكاسبه، ورياسته، بل رأى الانصراف إلى بلده، ليستعمل هناك الواجب، مع قناعته بأهل بلده الذين كانوا أفاضل، علماء، أخبارا، لأن العالم الفاضل يرى أن موته خير له من كونه بين جهال أشرار، وإن سعدوا بالجد.
صفحه ۱۲۴