وأيضا فإن من المعلوم أن المرضى كثيرا 〈ما〉 تسوء أخلاقهم، فيكثر ضجرهم، ويسرع حردهم، وخاصة إذا طالت بهم أمراضهم. فلذلك يلحق خدمهم، وأهلهم، منهم الضجر، فيستثقلون خدمتهم، ويقصرون فى تدابيرهم. فربما آل ذلك إلى الفساد على الطبيب فى علاجه، وإلى هلاك المريض جملة. فالدواء لهذه البلية، والخلاص منها، هو أخذ الإنسان لنفسه، فى حال صحته، بضبطه لنفسه من الحرد والغيظ، ليألف الاحتمال، ويقتنى حسن الخلق، فيجد ذلك على نفسه فى وقت المرض سهلا، واحتماله قريبا.
وكذلك القول فيمن عود نفسه ألا يتبع لذاته، ولا يواتى شهواته، فى حال صحته. فإن احتماله لما ينهى عنه فى حال مرضه، من الأغذية والأشربة، يكون أسهل عليه، وأخف. فلنكتف بما ذكرناه من هذا الباب! PageV01P11 8
[chapter 12]
الباب الثانى عشر فى شرف صناعة الطب
ولما كان ذكرنا لشرف صناعة الطب، وتقدمها فى المرتبة على سائر الصنائع والمهن، يبعث أهل العقول والآداب على اقتنائها، أو ما تهيأ 〈لهم〉 منها، ويرغبهم فى اتباع أوامرها، والبعد عن نواهيها، ويحثهم على تشريف أهلها، وجب لذلك أن أذكر وجوها من شرفها، وعيونا من فضائلها، فأقول: إن سائر المهن والصنائع لا يتم ذكرها، ولا يوصل إلى غاياتها، إلا بعد تصور النفس العلم بها. ولما كان العلم للنفس الناطقة، والعمل للبدن، وكانت النفس إنما يتم لها العلم بالبدن، إذا كان صحيحا، والصحة إنما تنحفظ وتدوم، أو تجتلب وتقوم، بصناعة الطب، وجب لذلك أن تكون صناعة الطب هى أشرف الصنائع، والعلم بها هو أقدم العلوم.
وأيضا فإن الآلات التى بها تستخرج المهن والصنائع آلتان: إحداهما القياس، والأخرى التجربة، وغير ممكن من كل واحدة منهما، ولا من اجتماعهما، أن يقدرا على استخراج أصول صناعة الطب، إذ كان الحس لا يصل إلى ذلك، وذلك لما نذكره، وهو أنا ندرك أن أول شخص من المخلوقين، حين خلق محتاجا إلى الغذاء، ولم يعرف الغذاء من الدواء، وكانا كلاهما من نوع النبات، فإنه إن تناول أحدهما على أنه غذاء، فقد خاطر بنفسه، وغرر بخبرته، لأنه إن عمد إلى حشيشة السقمونيا مثلا، أو غيرها من الحشائش القاتلة، فأكلها، هلك. وإذا كان الحس لا يفى بعلم ذلك، و〈كان〉 العقل لا سبيل له إلى علم الأمور المحسوسة، ولا إلى تمييزها، إلا من جهة الحس، فغير ممكن إذا أن تعلم أصول صناعة الطب، بطريق الاستدلال، والقياس.
صفحه ۱۱۹