لكنى أرى أن الكرامة واجبة، لمن عرف قدر ما وهبه الله جل وعز له من جزيل النعمة، وعلو القدر، أعنى ما تفضل به على نوع الإنسان، من علم صناعة الطب، لعنايته، ورحمته له. ولما من بهذه الصناعة على نوع الإنسان، ولم يكن جملة أشخاصه يصلحون لتعلمها، خص به آحادا، أفاضل، عقولهم صافية، وقرائحهم حادة، محبون للخير، رؤوفون بأبناء نوعهم، ذوو رحمة، وعفة. ولذلك وجب على من خصه الله بهذه النعمة، أن يدمن 〈على〉 شكره، ويحسن عبادته، ويخلص له المحبة.
وبغير شك أن أخيار الناس، وأفاضلهم، يوجبون على نفوسهم لهذه الطائفة من الأطباء الإكرام، والإعظام، وأن من أزرى على هؤلاء، ووضع منهم، وجحدهم حقوقهم، فقد جحد الله، وأخل بمنته، واستخف بإحسانه. ولم يشك عاقل فى أن فاعل ذلك بنفسه استخف، وعن جهله بين.
ومن أدل دليل على جهله، مانراه عند المريض: كيف يلتفت إلى والد، ولا إلى ولد، ولا يرجو الصلاح من صديق، ولا حميم، لكنه يستغيث بالله، وبالطبيب. فإذا خلص من مرضه، نسى الطبيب، واستهان بحقه. وليس ذلك فعل من ينبغى أن يعد فى عداد المذكورين بالعقل، بل بالبهيمة، 〈فهو〉 بهذه أشبه، وأوصافها به أولى . وكم من ناس قد بغضوا الأطباء، وكرهوا قربهم، فضلا عن أن يحبوهم، ويكرموهم، لأجل منعهم لهم من شهواتهم، وتحذيرهم لهم من اتباعهم للذاتهم. فلذلك يكرهون اجتماعهم معهم، ويسبونهم، ويكرمون دائما من تابعهم إلى شهواتهم، وفضل عندهم لذاتهم، واستعمل معهم الملق، وأكثر الترداد إلى منازلهم، ومايلهم، بالخدمة لهم فيما يهوونه، والمحادثة بما يستحسنونه.
ولما علم أهل الخداع والحيل من الأطباء، بما يتفق مع كل صنف من أهل اليسار والرياسة من هذه الخدع، عملوا لصيدهم بذلك المعنى، فكانت هذه الحيلة لهم بمنزلة الشبكة للصياد. وإذا كان الأمر على ما ذكرنا — وامتحان ذلك سهل على من أراد تفقده، وتأمل ما قد نصب من الفخاخ، والشباك، وأنواع المصائد، أعنى بذلك ما يتزيا به أهل الحيل من الزى، وما يعظمون لنفوسهم 〈من〉 المجالس، ويتخذون من الآلات، والأمتعة، فى الدكاكين التى قد كبروها وزخرفوها — فليس ينبغى للعاقل أن تغره أمثال هذه الحيل، بل ينبغى له أن يفتقد من الطبيب ما يحسنه، وما منزلته من صناعة الطب، وينظر فيماذا أفنى عمره، وكيف سيرته، وبالجملة يجب أن يتأمل سائر ما نذكره فى الباب الذى نذكر فيه محنة الطبيب. فإذا رآه من أهل صناعة الطب بالحقيقة، فليعتقد فيه أنه من أولياء الله، ومن المكرمين عنده، ولذلك وهب له هذه الصناعة، وخصه بفضيلة سياسة أبناء نوعه، وجعله مصلحا لنفوسهم، ومقوما لأخلاقهم، ومعدلا لأبدانهم، وحافظا عليهم صحتهم، هذا إذا كان طبيبا بالحقيقة، أعنى فيلسوفا.
صفحه ۱۰۸