بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر وأعن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الشيخ الإمام العارف، أبو عبد الله أبو عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي، رحمه الله تعالى:
إن الله أنشأ خلقه لإظهار ربوبيته، ولبروز آثار قدرته، وتدبير حكمته، وليكون ذكره ومدحه مرددا على القلوب، وعلى ألسنة الخلق والخليقة، لما علم في غيبه، فأنبأنا في تنزيله، فقال جل ذكره: (وخلق الله السموات والأرض بالحق، ولتجزي كل نفس بما كسبت)، فأعلمنا لم خلق، فقال: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون). فقال أهل اللغة: إلا ليوحدون، ومثل ذلك قوله تعالى: (إياك نعبد) يعني نوحد، لأن في
1 / 11
توحيدهم إياه بأن لا إله إلا هو، إقرار له بالملك والقدرة، وإضافة الأشياء إليه. فهذه الكلمة تنتظم المدح، وأباح ذكره على كل حال، تقديمًا له على سائر الحالات وأعمال البر، وحصر ما سواه من الأفعال في أوقات مخصوصة، مع ما ذكر في الكتاب، وجرت به الأخبار عن الرسول ﷺ، بتفصيل الذكر على سائر الطاعات، لأن في الذكر مدحه، وجاءنا رسول الله ﷺ أنه قال: (ما أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى جده). حدثنا بذلك الجارود، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن عبد الله بن مسعود ﵁، عن رسول الله ﷺ، قال: (ليس أحد أحب إليه المدح من الله ﷿، من أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله ﷿؛ ومن أجل ذلك حرم الفواحش)،
1 / 12
وندب العباد في غير آية من كتابه إلى أن ينشروا ذكره، ويذكروا عنه جميل صنائعه، فقال تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها). في كل ذلك
يحثهم على مدحه وذكره بالجميل والثناء الحسن، وفي كل أسم له مدحه، وجميل ذكره، ودعاهم إلى توحيده، فقال: (لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد). وقال: (وما أرسلناك من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون) أي وحدون، لأنك لا تكون له عبدًا حتى يكون لك ربًا لا شريك له، فمن أشرك به خرج من نظام التوحيد، فهو وإن كان
1 / 13
له عبدًا من طريق الملك، فالعبد بنفسه لم يصير نفسه عبدًا، فيكون قد وحده وعبده، وإنما أطاعه لأن الله تعالى أمره أن يطيع، فأطاعه مولاه بأمر الله تعالى، فمن أطاع بأمر الله فهو مطيع لله، ثم إن الله تعالى دعاهم إلى أن يوحدوه قلبًا وقولًا وفعلًا، فمن قبل ذلك منه جملة، فاستقرت المعرفة بأنه واحد، فاطمأن به قلبه، وترجم به لسانه عما في ضميره، وعزم على الفعل مائلًا له، فقد آمن به. وهذا كله من العبد في وقت واحد، فركب فيه الشهوات والهوى، وجعل للشياطين فيهم وساوس يجرون فيه مجرى الدم، ويغوصون غوص النون في البحر، وجعل القلب ملكًا على الجوارح، فالشهوة تحرك البدن الساكن، وتزعج القلب، والشيطان يمنيه له ويعده، والهوى يميل به ويقوده، فالمؤمن قلبه مطمئن بالإيمان، والتوحيد ظاهر على لسانه،
1 / 14
فإذا جاء وقت فعل الأركان عمل فيه الشهوات، وزين له العدو، وماله به الهوى، حتى يفعل الفعل الذي يخيل إليك في الظاهر أنه لم يؤمن بعهد، فهو موحد بالقلب واللسان، ولكن لغلبة الشهوة وقوتها، فبظلمة هذا الهوى، ووسوسة هذا العود والتزين، غلب على القلب لا على ما في القلب، مما في القلب من المعرفة، فالقلب به مطمئن، ولكن صار مأسورًا مقهورًا، وهو أبدًا لمن غلب عليه وقهره.
فخلق اللوح، وجرى القلم بمقادير الخلق، وخلق السموات والأرض، والظالمات والنور، والليل والنهار، والملائكة، والجنة والنار، والجن والشياطين، والجبال والبحار، والدواب والأقوات والمعايش، وسائر الخليقة.
ثم خلق آدم ﵇، فاصطفاه، وجعله بديع فطرته، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء، وأبان فضله وكرم بنيه، وحملهم في البر والبحر، وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلًا، وسخر له ولذريته ما في السموات والأرض
1 / 15
واستخرج ذريته من ظهره، وأخذ عليهم الميثاق، ثم ردهم إلى صلبه، ثم نقلهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومن الأرحام إلى دار الدنيا ليعبدوه، وليوفوا له بما عهد إليهم يوم الميثاق، بأن لا يشركوا به شيئًا، إلى آجالهم التي كتبها في المقادير، إلى أن تنقضي مدة الدنيا، فيبعثهم للجزاء، وتبديل الأرض غير الأرض والسموات، وبرزوا لله الواحد القهار، وليجزي كل نفس بما كسبت، ليكونوا فريقين، فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير.
فمن نوّر الله قلبه بالإيمان قويت معرفته، واستنارت بنور اليقين، فاستقام به قلبه، واطمأنت به نفسه، وسكنت ووثقت وأيقنت، وأتمنته على نفسها، فرضيت لها به وكيلًا، وتركت التدبير عليه، فإن وسوس له عدو بالرزق والمعايش، لم يضطرب قلبه ولم يتحير، لأنه قد عرف ربه معرفة أنه قريب، وأنه لا يغفل ولا ينسى، وأنه رءوف رحيم، وأنه رب غفور رحيم، وأنه عدل
1 / 16
لا يجوز، وأنه عزيز لا تمتنع منه الأشياء، وأنه يجير ولا يجار عليه، فكما خلقه محتاجًا مضطرًا، فإنه سيوصله إليه من حيث يريد الرب ﵎، لا من حيث يريد العبد، على الهيئة التي يريد الرب، لا على الهيئة التي يريد العبد، وبمقدار ما يريد الرب، لا بمقدار ما يريد العبد، وفي الوقت الذي يريد الرب، لا في الوقت الذي يريد العبد؛ فعامة أهل التوحيد قد أيقنوا بهذا، إيمانًا به، وقبولًا له، ولم يستقر ذلك الإيمان في قلوبهم، حتى إذا كان وقت، الحاجة اضطربت قلوبهم وتحيرت، واشتغلت عن خالق الأشياء، ومالك الملوك، وأهل اليقين الذين قد استنار الإيمان في قلوبهم، سكنت القلوب، واطمأنت النفوس إلى ضمان ربها، وقربه منهم، وقدرته عليهم.
1 / 17
فهذا شأن الرزق والمعاش. وفوضوا أمورهم فيما سوى المعاش إليه، واتخذوه وكيلًا، لأنهم لما عرفوا بأنه رءوف رحيم منهم بأنفسهم، وأحق وأولى بأنفسهم من العبيد بأنفسهم، لأنه خلقهم فصورهم، وركبهم وأحسن تقويمهم، وسوى تعديلهم، فلم يكن لهم بأنفسهم من العلم والتدبير ما دبر لهم، وعرفه ملكًا قادرًا قاهرًا، يفعل ما يشاء، قد سبق علمه فيهم، بما يكون فيهم ولهم وعليهم، وجرى مع سابق العلم لهم بذلك قلمه في اللوح المحفوظ، ليكون أوكد في قلوب العباد، لأن سابق العلم غائب عن القلوب لا يدري كنفسه، واللوح قد خط بالقلم فيه أمر محدود، وشخص مخلوق، ويدرك بالقلوب معاينة، فما عاين القلب وأدركه أثبت عندهم مما لا تعاينه القلوب، ولا يمكن توهمه، فخلق اللوح وأثبت مقاديرهم فيه، لا لحاجة به إلى ذلك، وليكون أثبت على القلوب، لتسكن النفوس وتستقر على ما جرى القلم به، فإذا سكنت النفوس، تفرغت القلوب لعبادته، وحفظ حدوده، وإقامة أموره، وسقطت أشغال النفوس عن القلوب
1 / 18
فيما يراد بها، وما يكون وما يحدث، لأنها قد أيست عن أن يكون غير ما جرى به القلم، وعند الإياس تسكن النفوس، وإنما دعانا إلى أن بعبده، ونقيم حدوده، ونقيم فرائضه، ونتجنب مساخطه، ولنا قلب واحد، فأثبت في اللوح أرزاقنا وسعينا، وآثارنا وأحداثنا، ومدة آجالنا، وعامة أمورنا، لتطمئن النفوس، وتخلص القلوب من وساوسها، فتبده بفراغ، وكل ذلك منه رحمة علينا، وبين ذلك في تنزيله، فقال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها)، أي من قبل أن نخلق تلك المصيبة، ثم بين لم فعل ذلك، فقال: (لكيلا تأسوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم). فإن التأسي على الشيء الذي لم يقدر لك في اللوح هو استبداد وطلب ما ليس لك، والفرح بما آتاك يلهيك ويشغلك عن المعطي، حتى تأشر وتبطر بما تعطى، فتهلك،
1 / 19
وإنما المبتغى منك في ذلك أن تلهو عن الغائب، وتفرح في الوجود الذي
أتاك بالأهل الذي أتاك، ثم بفضله ورحمته عليك، وإلى هذا ندبك فقال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا، هو خير مما يجمعون). وقال تعالى في شأن الرزق: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين). ثم قال تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو، ويعلم ما في البر والبحر، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين). أي من يأكل تلك الحبة ومن يرزقها. فان اضطربت نفسه على ضمانه لقلة اليقين وغلبة الهوى وحرارة الشهوات، خاطب نفسه فقال: يا أيتها
1 / 20
النفس لم تضطربين؟ قالت: لأني محتاجة، وخلقت مضطرة، ذات شهوات، لا أبصر أمكنة الأشياء، ولا أعرف أوقاتها، ولا أعلم مقدارها، واشتبهت على كيفية أسباب وصولها إلي. فقال لها: أيتها النفس، إن كنت قد آمنت بربك، فحقيق عليك أن يكون كلام رب العالمين ووعده وضمانه وتكليفه، أثبت عندك وأوكد وأقوى من الذي تبصرينه على المشاهدة، لأن البصر ربما أخطأ، وربما كان مسحورًا، يرى أنه كذلك وليس كذلك، وقول رب العالمين أصدق وأبر، وأوفى وأثبت من بصرك بعينك، فلو أبصرت الشيء الذي يحويه ملكك اطمأننت وسكنت، فكيف لا يكون بضمانه أشد طمأنينة، أرأيت لو كان لك ديوان فيه غرماء ملاء أسماؤهم، مكتوب فيه: على فلان ألف درهم، وعلى فلان ألف دينار، وعلى فلان عشرة آلاف درهم، أكنت تطمئنين؟ فإن وجدتها قد طابت وسكن اضطرابها لما وجدت في الديوان من أسماء هؤلاء، وهم أهل صدق ووفاء، فأنشر
1 / 21
عليها ديوان رب العالمين، وهو القرآن المجيد المنسوخ في اللوح المحفوظ، تنزيل من الرحمن الرحيم، نزل به الروح الأمين، على قلب محمد رسول الله ﷺ، رسول رب العالمين، فقلب أوراقه، حتى تقف بها على آية الرزق، حيث يقول تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله
رزقها). ثم قال لها: أيتها النفس المطمئنة، وجدت في ديوانك على هؤلاء الغارمين ما وجدت، وفرحت وأمنت الفقر فطبت، فهذا في المصحف قوله: (على الله رزقها). أهذا أعظم شأنًا، وأصدق وأبر وأوفى، أم الذي وجدت في ديوانك؟ أما تستحين أن تلقى ربك بهذه الحالة، ولكني قد فهمت لم اضطربت بعد أن أيقنت بضمان ربك، إنك ذات شهوات، فيك شهوة العز، فأنت تهربين من الذل، وفيك شهوة ألوان الطعام، فأنت تهربين من البؤس، فيك شهوة إدراك المنى، فأنت تهربين من فوتها.
1 / 22
وإنما تضطربين لأنك أردت أن يكون رزقك في وقت، وأراد بك في وقت آخر، واشتهيت أن يكون على صفة، وأراد ربك غير ذلك، وأردت من وجهه راحة، وأراد ربك من وجه تتعبين فيه، وأردت كثيرًا، وأراد ربك أقل من ذلك، فأصبحت وأمسيت مخالفة لربك في مشيئاته وإرادته، فحملك ذلك على الشهوة، حتى غلبتك، فرمتك في أودية المهالك، فأقبلت بهلعك وجزعك على حطام الدنيا، من سبيل الخبائث والأقذار والشبهات والأوساخ، لسكون نفسك به، ثم منعت حقوق الله فيه من ظاهر الأحكام، فقطعت الأرحام، وباغضت العباد، واستخفت بحقوق المسلمين والمؤمنين، وهربت من إنصافهم، وجفوت أهل الحرمة، فأصبحت وأمسيت ظلومًا غشومًا، ووعيد الله ينادي في سمعك قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئًا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها، وكفى بنا حاسبين).
1 / 23
فهل تعرف مقدار الخردلة من الظلم ما هو، وكيف يكون؟ لو نجع فيك هذا الوعيد لطارت منك الشهوات، ومات منك الهوى. فأهل الفهم راضوا أنفسهم وتدبروا، فقالوا: كيف كيف لنا بأن لا نأسى على ما يفوتنا من الدنيا، وتمنوا إليه حاجة، وطلبوا من أين يدخل الضرر عليهم، فوجدوا أنهم لما عارضتهم الحوائج في أنفسهم، تحدثوا بها وتمنوها، وطلبوها على التملك والاقتدار، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فلما فاتهم، وجدوا الأسى والحزن على
فوت ذلك؛ ففهموا أن هذا إنما دخل عليهم من أجل أنهم تمنوها، وأطعموا أنفسهم في إصابتها، فوجدت النفس حلاوة وجودها، وقوى الهوى، فراضوا أنفسهم بترك الشهوات، وقطع المنى، فخمدت نيران شهواتهم، ففارقوا الهوى جهدهم، لمجاهدتهم إياه، حتى ذلل وأنقمع، وكلما بدا لهم أمر، أو خطر ببالهم، لم يتمنوا ولا أطمعوا أنفسهم، وانتظروا ما يبرز لهم من المسطور في اللوح السابق قبل خلق السموات، فسلموا لربهم، وانقادوا لحكمته كالعبيد،
1 / 24
فعاشوا في الدنيا بأرفع درجة، وأكرم منزلة عند أنفسهم، وأنعم بال وأقر عين بهذا الدين، وماتوا بروح وريحان، ولقوا ربا غير غضبان، ورضوا عن مولاهم، فرضى عنهم، فأيدهم في الدنيا بروح منه، وفي الآخرة قربهم ولطف منهم، (أولئك حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون). أولئك (أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون). استنارت قلوبهم باليقين، فصارت أمورهم في نوائبه كالمعاينة، كلما حل بهم أمر من عسر أو يسر، أو خوف أو أمن، أو ذل أو عز، أو بلاء أو نعمة، حرقت أبصار قلوبهم، فأبصرت في لحظة أن هذا الأمر قد كان في اللوح المحفوظ كما برز لنا الآن، وهو حكم الله علينا، لم يكن فيهم من الشهوات ولا من الهوى من القوة ما يثقل عليهم قبوله من ربهم، وتلقوا أمره بالهشاشة وطلاقة النفس وبشر
1 / 25
الوجوه، فهم الراضون والصابرون، قبلوا على كره من نفوسهم وجهد، لأن شهواتهم حية قوية في نفوسهم، ويقينهم ضعيف، لم يبصروا اختيار الله لهم ذلك، ورأفته ورحمته عليهم، ولم يكن لا اختيار الله تعالى ولا لمشيئته عندهم موقع حلاوة، فكانت تلك الحلاوة تمازج مرارات النفوس، فتذهب بالمرارة، كما تجد المرارات في الأدوية، فتمزج بالعسل والسكر وما أشبه ذلك، فيغلب عليه، فتفقد تلك المرارات منه؛ وإنما تقع حلاوة صنع الصانع في قلبك على قدر حبك للصانع، وإنما تحب الصانع على قدر معرفتك بقدره، وكلما كنت به أعلم، وكان هو أرفع منزلة في الأشياء، كان
قدره عندك أعظم، وهو إليك أحب، ولذلك قيل: أشدهم حبا له أعلمهم به، وأعرفهم له، ومنه قول بديل العقيلي: (من عرف ربه أحبه، ومن عرف الدنيا زهد فيها). رواه ابن المبارك، عن سفيان الثوري رحمهما الله تعالى، قال: كتب الحجاج بن فرافصة عن بديل ﵀.
1 / 26
فمن عجز عن الرياضة، فإنما يقبل أحكام الله تعالى ومشيئاته على حد الإيمان، وصبر على أموره على حد التقوى بأركانه، على ثقل من نفسه، وتنغيص وتكدير من عيشه، وجهد من قلبه؛ ومن راضها وأدبها استقامت في السير، وانفطمت عن أخلاقها، وتداركه ربه بالنصر والمدد، وأنجز له الوعد: فقد بين هذا الشأن في آيتين من كتابه، فقال: (وجاهدوا في الله حق جهاده) فأمر بمجاهدة النفس، وفطمها عن أخلاق السوء، عن أن يريد غير ما يريد الرب جل وعلا، فلو تركنا في جميع أعمارنا لكان، هذا أمرًا هائلًا عظيما، لكنه وعد في آية أخرى أن يخلصنا من وباله، ويؤدبنا ويبصرنا، فقال: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا، وإن الله لمع المحسنين). فهو هاديك، وهو معك في النصر والتأييد، فرحمته منك قريب، ممن يقويك ومن يدركك.
1 / 27
وإنما الشأن أن تجاهدوا في بدء أمرك حق جهاده، فإذا أنت قد ظفرت بالوعد الثاني قد أنجزه لك، فإذا هداك السبيل ملأ قلبك نورًا وكلاءة ورعاية حتى لا تزيغ، فهو المنيب، المقبل على ربه، القابل لأمره بالهشاشة والسرعة، ألا ترى إلى قول الرسل الذين مضوا ﵈ حكى عنهم الرب ﵎، حيث قالوا: (ومالنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا). والتوكل هو أن تفوض أمرك إلى ربك، ثم ترضي بما يصنع بك، فعلموا في قلوبهم أنهم إنما قووا على ذلك بما هداهم الله لسبيله. ومما يحقق ما قلنا في شأن الراضي والصابر، قول رسول الله ﷺ لعبد الله بن عباس رضي
الله عنهما: (فإن استطعت أن تعمل لله بالرضا واليقين، فأفعل، فإن لم تستطع فأصبر، فإن الصبر على ما تكره خير كثير. واعلم أن مع العسر يسرا، ومع الكرب فرجًا). حدثنا بذلك علي بن حجر، قال حدثنا بذلك
1 / 28
إسماعيل بن عياش وعيسى بن يونس، قالا: حدثنا عمر مولى غفرة، عن عبد الله بن عباس ﵄، عن قول رسول الله ﷺ بذلك؛ فقد بين رسول الله ﷺ المنزلتين في هذا الحديث.
واعلم أن الصابر عاجز عن مقام الراضي، وأن الراضي باليقين أدرك ذلك، لأنه عاين عواقب الأمور، وذلك بمنزلة رجل كان له كيس من دراهم، افتقده من حيث وضعه، وهو لا يملك شيئًا سواه، فثار في رأسه كالثيران، من شدة الوجد لفقده، حتى تبين ذلك في أحواله وفي وجهه، وظهر اغتمامه بذلك، فقال له رجل ملئ وفي بر صدوق: أنا أعطيك رأس السنة بدل كل درهم دينارًا؛ فسكن إلى قوله، وسكن بعض ما به من الوجد، فلا يخلو من الاغتمام، ويضيق صدره بمضي هذه المدة، فهو يصبر على كره، إلا أنه مازج ما أطمع فيه، الوجد الذي في نفسه، فخف ما به وهو كاره صابر؛ ورجل آخر افتقد كيسًا من دراهم، وفي ملكه ملء بيوت من جواهر، كل جوهر لا يدري ما قيمته فما يتبين عليه فقد ذلك الكيس، ولا يبالي به، وهو في ذلك كالذي افتقد
1 / 29
فلسًا وعنده كيس من دراهم. فالأول هو غنى بالمال، والثاني غنى بربه ومليكه، فالأول فرح بالمال والأحوال، والثاني فرح بالله، ثم بفضله ورحمته، عامة ملجئه ومفزعه إلى الله ﷿، فالأول قلبه مأسور بالأشياء، قد ملكته حلاوة الأشياء، والثاني سكن قلبه حلاوة قرب الله ﷿، فالأول قلبه بالأشياء، وبالأشياء تعلقه؛ والثاني مشتغل بالله وإليه منيب، وبه متعلق.
ومما يحقق عندنا حال هذا الثاني، ما أتت به الأخبار عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وعن السلف الصالح من بعده، حدثونا به عن ابن المبارك، عن صالح المري، عن حبيب أبي محمد، وهو العجمي ﵀، عن شهر بن حوشب، عن أبي ذر ﵁ ولم يرفعه؛ وأما غير ابن مبارك فرفعه إلى رسول الله ﷺ، قال: يقول الله ﵎ لجبريل ﵇: يا جبريل، انسخ من قلب العبد الحلاوة التي كان يجدها بي، فينسخها من قلبه، فيصير العبد والهًا.
1 / 30