وفي الميدان الاجتماعي نجد المدينة تأخذ مكان القرية الإقطاعية، ونجد المصنع يجذب إليه العمال من الريف ويمسح من عقولهم العقلية الريفية الساذجة، بل يجذب أيضا الفتيات ويجعلهن يعتمدن على كسب أذرعهن فيفهمن معنى الاستقلال الشخصي، ثم معنى الحب، أي لا زواج بلا حب.
ثم في الميدان الأدبي نجد أنه بزوال الإقطاعيين والملوك والأمراء، وبزوال العقل الريفي الذي يلتزم التقاليد، وأيضا بظهور طبقة جديدة هي الطبقة المتوسطة القارئة، بزوال أولئك وظهور هؤلاء نجد النزعة الرومانتية والأدب.
أي الأدب للشعب، بلغة الشعب وهموم الشعب، مع الإكبار من شأن الحب، وظهور القصة، والحملات المنظمة على المظالم السياسية والاقتصادية، والاتجاه الاشتراكي، والجرأة على التقاليد والاستبدال فيها ... إلخ، ثم ظهر رومانتيون كثيرون يعبرون عن هذه النزعة، ولكن الكاتب الذي تبلورت فيه هذه النزعة هو «جان جاك روسو»؛ ولذلك تكفينا الإشارة إلى بعض كلماته وآرائه كي نعرف ماهية الرومانتية.
وأول ما نذكر أنه هو صاحب شعار الثورة الفرنسية: «الحرية والإخاء والمساواة»، وهي كلمات شعبية ترفض التسليم بإيجاد خاصة وعامة؛ إذ كيف تمكن المساواة والإخاء مع وجودهما؟
ثم هو داعية الحب على طريقة ابن حزم الأندلسي، وعاطفة الحب هي أحسن العواطف وأشرفها، وهي تضع القلب فوق العقل.
ومن أعظم سمات الحركة الرومانتية الاعتماد على الإحساس دون المنطق، أي إحساس القلب بدلا من منطق العقل، ولذلك يغمر الحب هذه الحركة كلها، ومن سماتها أيضا تعليل المساوئ البشرية بسوء النظام الاجتماعي، وأن الإنسان طيب بطبيعته سيئ بمجتمعه، ولذلك نزع روسو إلى الطيبة حتى قيل عنه إنه استطاع أن ينقل الإحساس المسيحي عن الكنيسة إلى الطبيعة التي وجد فيها حنانا وجمالا وعدلا لم يجد مثلها في المجتمعات المتمدنة.
وظهرت حركات اجتماعية كثيرة هي ثمرة هذا التفكير الرومانتى؛ فإن حركة الرواد، والتجوال في الريف، والاصطياف على الشواطئ، هي ثمرة رومانتية لأفكار روسو وغيره من طرازه، وكذلك إلغاء الضرب في المدارس، وتعذيب المسجونين، بل إلغاء التعذيب للمجانين، وأحيانا إلغاء عقوبات الإعدام، كل هذا بعض ثمرات الحركة الرومانتية.
بل الرأفة بالحيوان هي أيضا إحدى هذه الثمرات.
وأخيرا الحب للعامة؛ فإن العامة، الرعاع، الغوغاء، قد ارتفعوا إلى مقام الشعب عند الرومانتيين الذين تغنوا بسذاجتهم وجمال أقاويلهم وطهارة نفوسهم، وهذا ما ينتظر؛ لأنهم كانوا ثائرين على الخاصة في السياسة والأدب والاجتماع.
وحياة روسو رومانتية تحفل بكلمة «ضد» ...
صفحه نامشخص