ولكن كان في أوروبا مؤثرات أخرى. ومن أغرب ما يذكر هنا أن أعظم هذه المؤثرات، وهو الأدب الروسي، لم يترك أثرا صغيرا أو كبيرا في إنجلترا. وأدباء الإنجليز جميعهم يعترفون بسمو هذا الأدب، وأنه الأدب الإنساني الرائع الذي لم يخلق مثله في العالم، ومع ذلك ليس فيهم واحد، ولا واحد، قد تأثر به. ولست أستطيع أن أعزو ذلك إلا إلى أن البيئة الإنجليزية (الاقتصادية الاجتماعية) كانت تختلف جد الاختلاف عن البيئة الروسية؛ ذلك أن المجتمع الروسي أيام القياصرة كان حافلا بالفوضى والشقاء والذل، مما كان يحمل الأديب على أحد طريقين: إما أن يثور ويلحد بالسلطة القيصرية والآلهة مثل «مكسيم جوركي»، وإما أن يستسلم للقدر، ويتعوض من البؤس المادي غبطة روحية مثل «دستوفسكي». وكلا الطريقين غريب عن الذهن الإنجليزي.
أما سائر المؤثرات فيرجع بعضها إلى «إبسن» الشاعر النروجي الذي يمكن أن يقال إنه جدد الدرامة الإنجليزية عن سبيل «برنارد شو». وقد أنكر «برنارد شو» أنه مدين لهذا الكاتب النروجي، ولكن الذي يقرأ الاثنين لا يستطيع إلا الاعتراف بأن الثاني مدين للأول في فنه وآرائه وثورته على العرف، ودعوته إلى استقلال الشخصية، ودعوة المرأة إلى الرجولة، ولا أقول الاسترجال. ويقول «برنارد شو» إنه تلميذ لأديب إنجليزي هو «صموئيل بطلر»، ولا شك في أنه صادق في ادعاء هذه التلمذة، ولكنها ليست كل شيء في تلمذته؛ فإنه مزيج من «داروين»، و«نيتشه»، و«إبسن»، و«بيرون» و«برجسون».
شيللي.
ومن المؤثرات الحديثة القوية في الأدب الإنجليزي نجد لنظرية «التحليل النفسي» والعقل الكامن أكبر الأثر، وهذا الأثر أكبر وأعظم في الشبان الجدد.
ويمكن أن نقسم الأدب الجديد، أو المجدد، إلى ثلاثة أقسام، هي ثلاثة أطوار: طور الرائدين، ثم طور المجددين، وأخيرا طور الثائرين.
وهذه التسمية نريد بها التوصل إلى فهم التجديد، ولا نريد بها التعيين؛ ففي الطور الأول نجد الرائدين وهم «سونبرن» الشاعر، وهو إنما يثور على العقائد دون العرف الاجتماعي، ثم «صموئيل بطلر» أستاذ «شو»، وهو ثائر على العرف الاجتماعي، وكلاهما يدعو إلى احترام الشخصية واستقلال الفرد استقلالا دينيا اجتماعيا. ثم تجد أنه يعاصرهما «أوسكار وايلد» و«ولتر باتير» وكلاهما يدعو إلى الجمال دون الأخلاق الشائعة مع فرق سبق أن بيناه. ثم ندخل بعد ذلك في طور المجددين، فنجد «برنارد شو» في المقدمة، لا يقنع بالانتقاض على الدين، بل هو يثور أيضا على المجتمع والعرف. وهو ليس هداما يرضى بالهدم ويسكت عنده، ولكنه يبني، فيدعو إلى الاشتراكية واستقلال الشخصية ويرسم الطرق لاستخراج «السوبرمان». وكأنه يضع مقاييسه ويقوم بعملية حسابية عن توليد خروف أبيض من نعاج سود. وهو كافر يعتقد في نفسه أنه مؤمن، ومادي يظن أنه روحي، وعالم يمارس الأدب ويعلن احتقاره له، وكاهن من كهنة البشرية الجديدة وجوهرة من جواهر الأدب الحديث.
ومن المجددين أيضا «ولز» وهو يشبه «برنارد شو» من وجوه كثيرة من حيث النظر العالمي للأدب، وإن كان هو من حيث المزاج أديبا، بينما «شو» عالم. و«ولز» الآن قوة من قوى الخير في العالم، وهو أكبر أثرا من عصبة الأمم في الدعوة إلى الإخاء. وقد رضي بالتضحية بالفن من أجل الوعظ، فإنه يعظ ويعظ ولا يفتأ يعظ ويبين للناس كيف يتوقون الحروب والأمراض، ويدلهم على وسائل الخدمة الإنسانية. وقد حاول أن يؤمن، وأخلص في المحاولة، إلا أنه فشل وعاد يدعو إلى الكفر أو الإلحاد في غلواء بقوة إيمانه الإلحادي الجديد.
ثم ندخل في طور الثائرين، وهم الشباب الجدد الذين كابدوا من الحرب ويلاتها وعرفوا منها السفالة العميقة التي يمكن أن تهوي إليها الإنسانية على الرغم من طلائها النظيف. وجميع هؤلاء الثائرين قد درسوا التحليل النفسي والعقل الكامن، ونظرية التطور، وخرجوا من هذا الدرس بجواهر تحيط بها أكوام من «الزبالة». وقد خالفوا أوضاع القصة، ورفضوا حتى عرف الكتابة بحيث إن الذي لم يتسلم مفتاحهم لا يكاد يفهم ما يكتبونه. ومفتاحهم هو الكامنة أو «العقل الكامن»، وما في داخل رءوسنا من حشرات وأفاع. ولكنهم مع ذلك يعرفون أنه إلى جنب هذه الحشرات والأفاعي طواويس زاهية وفراش جميل. ثم إلى جنب هذا وذاك نزوع غامض في النفس البشرية نحو الكمال. وأبطال هذا الطور هم «لورنس»، و«هكسلي»، و«جويس ».
والمستقبل لهؤلاء على الرغم مما فيهم من ضعف وتردد، بل من خلط واضطراب؛ لأنهم قد حطوا على حقائق النفس البشرية وكشفوها وأبانوا عنها عارية، ولم يستروا منها قبحا أو حسنا، فهم يتسابقون في ميدان جديد جرى فيه «ولز» نفسه شوطا ثم كف عنه.
وهذا كلام كله مختصر يحتاج إلى إسهاب في الشرح.
صفحه نامشخص