إن هذه النظريات نفسها أكدت ضرورة التفريج عن الغريزة الجنسية والكف عن الكظم وقمع الشهوات.
وهم بكلمة مختصرة قد تركوا «الأدب» والتمسوا الحياة. وإذا كانوا يعتمدون على القصة فذلك لأنها تتسع لألوان مختلفة من وصف العيش ونقد النظر. وإلا فهم كثيرا ما يعتمدون على المقالة. وسواء عندهم هذه أو تلك أداة لبسط آرائهم في الدنيا والإنسان.
وهؤلاء الثائرون كثيرون الآن في إنجلترا منهم من نوفق إلى فهمه، ومنهم من يعتاص ويستوعر. وسنتكلم عن أشهرهم، وهم «لورنس» و«جويس» و«هكسلي»، فأما الأول فقد مات في 1931 وهو في زعم كثيرين رأس الثائرين وبداية العهد الجديد للأديب الإنجليزي. وهناك من يضع «جويس» على رأسهم. وكل من الاثنين يختلف عن الآخرين في الطريقة والغاية. ولكنهم جميعا سواء في الدعوة إلى التمتع بالحياة بالذهن وبالغريزة معا.
وفي كل من «لورنس» و«جويس» نجد التفاتا كبيرا إلى اللذة الجنسية، وبحثا مستفيضا فيها، كان من أثره أن منعت الحكومة بعض مؤلفاتهم من التداول. وهما، كلاهما، ينغمسان في أعماق العقل الكامن حتى ليشعر القارئ لهما أنه قد انتقل من قراءة القصة، إلى قراءة حادثة معينة من تلك الحوادث التي يذكرها «فرويد» في بعض محاضراته. وقد كانت «ماري ستوبس» تعد قبل الحرب من الغلاة في الدعوة إلى الصراحة في المسائل الجنسية ولكنها الآن لا تعد شيئا أمام هؤلاء الثائرين. كما أن دعوة «برنارد شو» إلى مواجهة الحياة والنزول على حقائقها دون بهارجها وتزاويقها قد عمل بها وغلا فيها «ألدوس هكسلي».
و«ألدوس هكسلي» هو رجل الذهن والعلم، وهو أقرب إلى «ولز» منه إلى الثائرين. وهو يبتعد عن «فرويد» والتحليل النفسي بقدر ما يقترب من «واطسون» في السيكولوجية السلوكية. ويستطيع أن يهرب من الحياة بقصة خيالية عن حالة الناس على الأرض بعد مئات السنين.
أما «لورنس» و«جويس» فلا يعرفان غير الواقع، وكلاهما يجنح إلى الغريزة ويضعها فوق العقل. وفي كل من هؤلاء الثائرين فجاجة هي أمارة المبتدئ الذي لم ينضج.
ويجدر بنا هنا أن نعرض موكب الأدب الإنجليزي منذ العصر الفكتوري إلى الآن لنرى هل هؤلاء الثائرون يقفون في طرف هذا الموكب موقفا منطقيا أم لا.
فإن العصر الفكتوري اتسم بالجمود، وانساق في أدبه إلى الخيال والإبهام، كما انساق في مجتمعه إلى الغش والنفاق. وكلتا النزعتين ترجعان إلى أصل، هو الصدود عن الحقائق الواقعة وكراهة الحياة كما هي، وتوهمها شيئا آخر أسمى وأجل وأقوم مما هي في الحقيقة. وكما كان هناك عرف اجتماعي وعادات فاشية تكسو الحياة بالنفاق، كذلك كان في الأدب عرف آخر يدعو المؤلف إلى أن يتوهم الحياة وكأن ليس فيها غير ما يهواه كل الناس من حسن وسمو وجمال.
وقد صمد المجددون لهذا النفاق يكشفونه. ولما عرفوا أن النفاق الاجتماعي هو الأصل للنفاق الأدبي، عمدوا إلى الاجتماع يمزقونه تمزيقا. وهذه هي مهمة «برنارد شو». وظهر «المنحطون» فدعوا في صراحة وجرأة إلى أن التمتع باللذات والشهوات ليس عيبا. وقد تورطوا بهذه الدعوة في بعض الشذوذ.
وبعد هؤلاء وهؤلاء جاء الثائرون، وقد اصطلوا نار الحرب الكبرى فعرفوا من نفاق المدنية في أربع سنوات ما لم يعرفه أسلافهم في سبعين سنة من العصر الفكتوري، فكانت ثورتهم أشد من ثورة المجددين.
صفحه نامشخص