فهو في الأخلاق يطلب حرية الفرد التامة، فلكل إنسان أن يفعل ما يشاء من فضيلة أو رذيلة. فيرى أن ليس للمجتمع مثلا، أن يكف الناس عن الخمر. ويبني رأيه هذا على أن مصلحته الحقيقية تقتضي أن تباح الخمور لجميع الناس حتى تصطرع الإرادات فيبقى الرجل المتين الصليب الذي لا تغريه الخمر بالانغماس ويموت اللين الخريع الذي ينغمس في الشراب. وذلك أن من شأن الرذائل أن تقتل المتهالكين عليها، وأن من مصلحة الأمة أن ينقرض هؤلاء الضعفاء الذين لا يملكون إرادتهم وعندئذ لا يبقى فيها غير الأقوياء. أو بعبارة أخرى يريد «برنارد شو» أن تكون الفضائل سجايا موروثة تجري في عروقنا وتتمشى بنا كأنها بعض طبائعنا، نلزمها عفوا وطبعا وليس تكلفا وتعليما. ولن يكون ذلك إلا بأن تنقرض منا عناصر الشر بانقراض أصحابها. وانقراض أصحابها لا يكون إلا بأن يستسلموا لها وينغمسوا فيها. وإذا كانت الرذيلة لا تقتل أصحابها، فهي إذن ليست رذيلة وليس ما يدعونا إلى أن نكف الناس عنها، فالنهم، والمنغمس، والمدمن، والقذر، والمستهتر، كل هؤلاء يؤذون أنفسهم بما يمارسونه، فمن مصلحة الأمة أن تتركهم حتى يبيدوا منها وليس من مصلحتها أن تقيم الحواجز كي تكفهم عنها؛ لأن قصارى ما تفعله عندئذ أنها تقيم قفصا من الواجبات الأخلاقية. ولكنها مع ذلك لن تغير طبائعهم. وهو يضرب المثل بفرنسا التي تستباح فيها الخمور يشربها الصغار والكبار والأطفال والشيوخ، فإن الفرنسي أقل الأمم سكرا وإدمانا؛ لأن الذين أدمنوا قد هلكوا وباد نسلهم فلم يبق سوى المعتدلين.
ولكن الذين رأوا تفشي المخدرات في مصر عقب الحرب الأولى لا يمكنهم أن يؤمنوا بهذه الإباحية، فقد رأينا نحن نصف مليون مصري تفترسهم المخدرات، وليس فينا من يستطيع أن يقول إنه يجب علينا أن نتركهم حتى تقتلهم هذه المخدرات؛ لأنهم إنما وقعوا فيها لضعف إرادتهم، وأن هذا الضعف جدير بأن تطهر منه الأمة حتى لا يبقى فيها غير الأقوياء المستعصمين الذين يستطيعون أن يعيشوا ويتصونوا مهما أحاطت بهم الغوايات.
ولمذهب «داروين» الأثر الأكبر في نزعات «برنارد شو» التجديدية. وهو هنا في موضوع الأخلاق إنما يجيز هذه الإباحية لأنه يرجو منها تطورا يصيب القلوب والغرائز فتستحيل الأخلاق طباعا موروثة لا يحتاج الناس إلى تعلمها وتكلفها وسن القوانين وإقامة الحواجز للمنع من مخالفتها.
وهذا «التطور» يشغف به «برنارد شو» شغفا عظيما حتى لقد جعله موضوعا لاثنتين من أقوى دراماته. وهو في واحدة منهما يقترح إنشاء «وزارة للتطور» يكون رئيسها عضوا في مجلس الوزراء. والقصد من هذه الوزارة تدبير الطرق وتهيئة الوسائل لاستنتاج طراز جديد من الناس يكون أقوى جسما وأذكى عقلا وأصح غرائز منا. وهذا الطراز الجديد هو سلالة «السوبرمان» - أي ما فوق الإنسان - فإنه يقول إنه ما دمنا في عصر ديمقراطي، الحكم فيه للأمم، فإنه يجب أن نجعل الناس يتطورون. حتى إذا مرت القرون ظهرت سلالات جديدة من الإنسان تمتاز من السلالات القديمة بميزات إنسانية جديدة. وهو هنا يشرح للقارئ جمود الإنسان منذ فجر المدنية إلى الآن، فإن هذا الرقي الذي نفخر به إنما هو في الوسط الذي يحيط بنا وليس في أنفسنا، فنحن أبناء العصر الحاضر وآباؤنا من عشرة آلاف سنة، سواء من حيث صحة الجسم أو ذكاء العقل، لم نتقدم في شيء. وإنما هذا التقدم الموهوم هو في الوسط فقط. وهو هنا يستشهد على أننا والمتوحشين سواء في الغرائز بآلاف الأمثلة، منها مثلا أن المتوحشين يحملون في فخار رءوس قتلاهم، وكذلك فعل «كتشنر» مع جثة «المهدي» التي بعثرها بقنابل المدافع في السودان.
وهو يرى أنه لا بد لاستنتاج هذا الطراز الجديد من الإنسان من الانتخاب الذي يتجاوز حدود الزواج. وهو يفرض وجود هيئة من العلماء تكلفهم وزارة التطور بتعيين الأشخاص الذين ترى في تزاوجهم فائدة للأمة من نسلهم المنتظر. وهو هنا إباحي لا غش فيه. ولو أردنا الشرح والإسهاب لتورطنا فيما لا يطيقه ذوق القارئ العربي، ولكننا نقول إنه ينظر إلى القوانين والشرائع من حيث إنها عادات وعرف، وأنه يجب أن تغير كلما وجدنا فائدة في التغيير. وهو يضرب المثل هنا بالزواج، فإن هذه الكلمة تحاط بهالة من الاحترام والقدسية حتى ليظن الإنسان أنها تعني شيئا واحدا عند جميع الناس. مع أن الواقع أنها تعني عادات تختلف بل تتناقض، فهناك المرأة التي تتزوج بضعة رجال في «التبت». وهناك الرجل الذي يتزوج بضع نساء. وهناك الزواج الذي لا يجاز فيه سوى رجل وامرأة لا أكثر. وينتقل من هذا البيان إلى استدراج القارئ إلى أن القول باستنتاج طراز جديد من الناس بلا زواج شرعي وعشرة دائمة بين الزوجين ليس قولا غريبا وإنما هو ابتكار عادة جديدة يقررها وزير التطور، أو هو زواج جديد، يسن المجتمع قوانينه الجديدة.
ولا يجوز لنا أن نتناول فلسفة «برنارد شو» دون أن نشير إلى الاشتراكية، فإنه يعلق هذا المذهب الاقتصادي على مذهبه البيولوجي السابق في استنتاج السوبرمان. وما دامت المرأة حرة من هذه الناحية الاشتراكية تعمل وتكسب فهي تستطيع أن تختار زوجها بهداية غرائزها. وهو يرى أن هداية الغرائز أدعى إلى ترقية السلالات البشرية من أي اعتبار آخر من الاعتبارات الحاضرة في الزواج، كأن تنشد المرأة في الزواج كفيلا يكفل لها العيش بدلا من أن تنشد حبيبا ومحبا إذا رأت وزارة التطور ذلك.
وهو من حيث الدين، أو بكلام أصح، من حيث المعاني الدينية، يؤمن بالتصوف «البرجسوني»، وأن البصيرة هي التي تهدي الذهن، وأن التطور يحمل في نزعته عناصر الرقي. وقد ألف ثلاث درامات عن الدين، وهي وإن لم تدل القارئ على أنه صريح الإيمان بالله فإنها تدل على الأقل على أنه مشغول البال بهذا الموضوع. ولكن لا يمكن مع ذلك أن يقال إنه ملحد، فإنه يرى أن الوظيفة هي أصل العضو، وأن العقل هو الأصل للجسم، وأن الفكرة هي الأصل للمادة، وأن وراء الكون الظاهر عقلا مختفيا. وقد حمل على «داروين» لأنه حين عالج موضوع التطور نظر إليه نظرة مادية فأزال منه القصد والغاية ، وجعل ظهور الأنواع الجديدة وقفا على بقاء الأصلح. وهذا لا يعني عند «داروين» أكثر من الاعتماد على المصادفات العمياء، وأن التطور يجري جزافا بلا قصد. في حين أنه هو - أي «شو» - يرى أن الحياة تهدف إلى غاية تسير نحوها على بصيرة هادية. وكأنه يقول: إن الحياة هي الله.
من داروين إلى برجسون
من الإهمال العظيم أن نعنى بحركة التجديد في الأدب دون أن نلتفت إلى عناية الأدباء بالدين.
صحيح أن الأديب الأوروبي الآن لا يبالي الموضوعات الدينية كثيرا، كما كان يباليها «فولتير» مثلا قبل قرنين تقريبا، ولكن ذلك يرجع إلى أن الاضطهاد الديني كان قويا أيام «فولتير»، فلم يكن اهتمام هذا الأديب العظيم به إلا على سبيل الجهاد للحرية فقط.
صفحه نامشخص