المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني به محمّد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد بن خليفة بن شدّاد بن إبراهيم بن شدّاد: الحمد لله الَذي قصّ من أنباء الرسل ما ثبت به فؤاد رسوله وتلا عليه من أخبار الأمم ما بلغ به تصديقه غاية سؤاله جاعل الأيام دولًا والأنام ملوكًا وخولًا وملبس الزمان من تقلّب الدول قشيبًا وسملًا محي الأموات ومميت الأحياء ومقدّر الأقوات ومجري الماء أحمده على تصرّف الأقدار وأشكره على تعاقب الأعصار وأصلّي على نبيه المبعوث بتغيير الملل وإقامة الدين ورفع منار الحق وقمع أباطيل الملحدين وعلى آله وصحبه الذين نسخوا ظلام الكفر بضياء الإيمان وجاهدوا في الله حق جهاده حتى علا دينه على سائر الأديان صلاةً زاكيةً دائمةً ما اختلف الملوان.
وبعد فإنه لما حللت بمصر المحروسة وتبوّأتُ محالها المأنوسة وشملني من أنعام مولانا السلطان السيد الأجل المجاهد المابط رافع كلمة الإيمان وقامع عبدة الصلبان ملك العصاة الإسلامية حامي حوزة الملّة الحنفية إسكندر الزمان والبلاد الجزرية خادم الحَرمين الشريفين القائم بمتابعة الخليفتين مقر الإِسلام في نصابه ومعيد رونق الخلافة العباسية بعد مضيّه وذهابه الملك الظاهر الطاهر المقاصد الباهر المفاخر ركن الدين أبي الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين لا زالت ألويتهُ في الخافقَّين خافقة وسوابق جياده إلى ديار أعدائه لعزماته سابقة ومواقفه لما يرضي الله ويعزّ الدين موافقة ولا برح النصر مفرونًا بأعلامه والدوام مصاحبًا لأيامه والدهر مصرّفًا بين نقضه وإبرامه ما يعجز البليغ عن حصره ويستقي الطاقة في نشره ولا يبلغ كنه قدره.
ورتعت في أنعامه بين روضة وغدير ورفلتُ من ملابس إحسانه فيما دونه الحرير وصاحبتُ زماني طلق المحياّ بعد عبوسه وعاد إليَّ معتذرًا مما كان قد أخنى عليَّ من بؤسه وكان السبب في نجعتي عن بلاد بها عقّ تمائمي الشباب وفيها اتخذتُ الإخوان والأصحاب وقضيتُ الأوطار مع اللدات والأتراب ما لا ينسى ذكره على مرور الأيام ولا يبرح مكرّرّا بأفواه المحابر وألسن الأقلام من دخول التتر الخذولين البلاد وتفرقتهم بجموعهم لشمل من سكنها من العباد رأيت انتهاز الفرصة في شكر إنعامه العميم وإدراك البغية في وصف إكرامه الجسيم أن أضع كتابًا أذكر فيه ما سنى الله له من الفتوحات التي لم تكن تتوهمها الأطماع وملَّكه ما كان بأيدي الكفر من منيعات الحصون والقلاع وما وطئته سنابك خيوله واسترجعتْه مواضي لهاذمه ونصوله من البلاد التي يئست الأطماع من ردها وألزمت العيون مداومة سهدها وجرعت النفوس الصبر بعد شهدها مفصّلًا كل جند من أجناد الشام والجزيرة بأعماله وحدوده ومكانه من المعمور وأطواله وعروضه ومطالع سعوده ملتزمًا في كل بلد ذكر من وليه من أوّل الفتوح وإلى الوقت الذي فُرغ فيه هذا الكتاب وأجري في ذلك طلق جهدي معتمدًا فيه على ما صح عندي ولا أدعي الإحاطة فيما ذكرتُ ولا أقول إني أحرزتُ الغاية وما قصرتُ عن إدراكها بل جعلتُه دستورًا يسترجع به عارب الإنس ويُستفادُ منه ما حدث باليوم والأمس وأبدأ بذكر جند حلب لكونها مسقط رأسي ومحل أنسي وناسي وثدي الذي ارتضعتُ دَرَّه ويجري الذي تقلد نحري دُرّه وموضع نزهتي ووطني وبقعتي والمكان الذي حمدتُ به الأيام والمنزل الذي كنتُ به من الحوادث في ذمام والدار التي صحبتُ بها الشباب غضاٍّ جديدًا وقطعتُ فيها بالدعة والسرور عيشًا حميدًا وعاشرتُ من لم يزل للمحفل صدرًا وللجحفل قلبًا وعند النائبات " شعر ":
أُحبُّ رُبّى فيها رُبيتُ مُكرَّمًا ... وَيُعْجِبُني كُثْبانُها وَهِضابُها
بِلادٌ بِها عَقَّ الشَبابُ تَمائِمي ... وَأَوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِسْمي تُرابَها
ولله قول ابن الرومي حيث أفصح عن السبب في حب الأوطان والتأسف علي القطّان " شعر "
وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِجالِ إلَيْهِمُ ... مآرِبُ قَضّاها الشَبابث هُنالِكا
إذا ذَكَروا أَوْطانَهُمْ ذَكَّرْتُهمُ ... عُهودَ الصِبا فيها فَحَنّوا لِذالكا
1 / 1