أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري
للإمام أبي سليمان حمد بن محمد الخطابي
٣١٩ هـ - ٣٨٨ هـ
تحقيق ودراسة
الدكتور محمد بن سعد بن عبد الرحمن آل سعود
1 / 1
الطبعة الأولى
١٤٠٩ هـ - ١٩٨٨ م
1 / 2
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي:
الحمد لله المنعم، مفضل النبيين، المجزل الجواد الكريم، ذي المن العظيم الذي ابتدأنا بنعمته في الأزل مشيئة وقدرا قبل أن نكون خلقا بشرا وقبل أن نسوى أجساما وصورا، ثم اصطنعنا بعدُ فأكرمنا بمعرفته وأرشدنا بنطر هدايته، علمنا الدين وكنا جهالا، وبصرنا السبيل وكنا ضلالا، ولولا فضله علينا ورحمته إيانا ما زكا منا من أحد ولا اهتدى بجهده إلى خير ورشد، و﴿الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما﴾ أوضح به مناهج الحق ونور سبله وطمس به أعلام الباطل وعور طرقه، وشرع فيه الأحكام، وبين فيه الحلال والحرام، ثم بشر وأنذر (ووعد) وأوعد، وضرب فيه الأمثال، واقتص عن الأمم السالفة نواصي الأخبار ليكون لنا فيها موعظة وبها اعتبار.
والحمد لله ﴿الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته
1 / 99
ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾. جعله مهيمنا على كتابه ومبينا له وقاضيا على ما أجمل منه بالتفسير، وعلى ما أبهم من ذكره بالبيان والتلخيص ليرفع بذلك من قدره ويشيد بذكره، فتكون أحكام شرائع دينه صاردة عن بيان قوله وتوقيفه، ثم قرن طاعته بطاعته، وضمن الهدى في متتابعته. فقال: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ وقال ﷻ: ﴿وإن تطيعوه تهتدوا﴾، وشهد له بالصدق فيما قاله وبلغه فقال ﷿: ﴿وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى﴾، وسلم له فيما شرعه وسنه الحكم وألقى إليه في ذلك أزمة الأمر، فقال ﷿: ﴿فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما﴾.
وأحمد الله الذي جعلنا من أمته فأكرمنا بدينه وسنته وعلمنا منهما ما لم نكن نعلم وكان فضله علينا عظيما.
نحمده على جميع آلائه قديمها وحديثها تليدها وطريفها السالفة منها والراهنة، الظاهرة منها والباطنة، حمد المعترفين بأسبابه وإبلائه، العاجزين عن مزيد فضله وإحصائه، المجتهدين في بلوغ شكره، الراغبين في المزيد من نوافل بره، ونسأله أن يصلي على
1 / 100
محمد عبده ورسوله أفضل صلاة صلاها على نبي من أنبيائه أرفعها درجة وأسناها ذكرا، صلاة تامة زاكية غادية عليه ورائحة، كما قد جاهد فيه حق جهاده، وناصحه في إرشاد خلقه وعباده، وعادى فيه الأقربين، ووالى الأجانب الأبعدين، وصدع بما أمر حتى أتاه اليقين، وأن يضاعف من بركاته عليه، ويزلف مقامه لديه، وأن يسلم عليه وعلى آله تسليما.
وإن جماعة من إخواني ببلخ كانوا سألوني عند فراغي لهم من إملاء كتاب (معالم السنن) لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ﵀ أن أشرح لهم كتاب الجامع الصحيح لأبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري ﵀ وأن أفسر المكل من أحاديث وأبين الغامض من معانيها، وذكروا أن الحاجة إليه كانت أمس، والمؤنة على الناس فيه أشد، فتوقفت إذ ذاك عن الإجابة إلى ما التمسوه من ذلك، إذ كنت أستصعب الخطة وأستبعد فيه الشقة، لجلالة شأن هذا الكتاب فإنه كما قيل: (كل الصيد في جوف الفرا) ولما يشتمل عليه من صعاب الأحاديث وعضل
1 / 101
الأخبار في أنواع العلوم المختلفة التي قد خلا عن أكثرها كتاب المعالم؛ إذ كان معظم القصد من أبي داود في تصنيف كتابه ذكر السنن والأحاديث الفقهية، وغرض صاحب هذا الكتاب إنما هو ذكر ما صح عن رسول الله ﷺ من حديث في جليل من العلم أو دقيق، ولذلك أدخل فيه كل حديث صح عنده في تفسير القرآن، وذكر التوحيد والصفات، ودلائل النبوة ومبدأ الوحي وشأن المبعث، وأيام رسول الله ﷺ وحروبه ومغازيه، وأخبار القيامة والحشر، والحساب، والشفاعة وصفة الجنة والنار، وما ورد منها في ذكر القرون الماضية، وما جاء من الأخبار في المواعظ والزهد والرقاق، إلى ما أودعه بعدُ من الأحاديث في الفقه والأحكام والسنن، والآداب، ومحاسن الأخلاق، وسائر ما يدخل في معناها من أمور الدين، فأصبح هذا الكتاب كنزا للدين، وركازا للعلوم، وصار بجودة نقده وشدة سبكه حكما بين الأمة فيما يراد أن يعلم من صحيح الحديث وسقيمه، وفيما يجب أن يعتمد ويعول عليه منه، ثم إني فكرت بعد فيما عاد إليه أمر الزمان في وقتنا هذا من نضوب العلم، وظهور الجهل، وغلبة أهل البدع، وانحراف كثير من أنشاء الزمان إلى مذاهبهم وإعراضهم عن الكتاب والسنة، وتركهم البحث عن معانيهما، ولطائف علومهما، ورأيتهم حين هجروا هذا العلم وبخسوا حظا منه ناصبوه وأمعنوا في الطعن على أهله فكانوا كما قال الله ﷿: ﴿وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك
1 / 102
قديم﴾. ووجدتهم قد تعلقوا بأحاديث من متشابه العلم قد رواها جامع الكتاب وصححها من طريق السند، والنقل، لا يكاد يعرف عوام رواة الحديث وجوهها ومعانيها، إنما يعرف تأويلَها الخواصُّ منهم، الراسخون في العلم، المتحققون به، فهم لا يزالون يعترضون بها عوام أهل الحديث، والرجل [؟] والضعفة منهم، فإذا لم يجدوا عندهم علما بها ومعرفة بوجوهها اتخذوهم سلما إلى ما يريدون من ثلب جماعة أهل الحديث والوقيعة فيهم، ورموهم عند ذلك بالجهل وسوء الفهم، وزعموا أنهم مقلدون يروون ما لا يدرون، وإذا سئلوا عنه وعن معانيه ينقطعون ويسمونهم من أجل ذلك حمالة الحطب وزامل [وزوامل] الأسفار ونحوهما من ذميم الأسماء والألقاب فكم غُمر يغتر بهم من الأغمار، والأحداث الذين لم يخدموا هذا الشأن ولم يطلبوه حق طلبه، ولم يعضوا في علمه بناجذ فيصير ذلك سببا لرغبتهم عن السنن وزهدهم فيها، فيخرج كثير من أمر الدين عن أيديهم وذلك بتسويل الشيطان لهم ولطيف مكيدته فيهم، وتخوفت أن يكون الأمر فيما يتأخر من الزمان أشد والعلم فيه أعز لقلة عدد من أراه اليوم يُعنَى بهذا الشأن ويهتم به اهتماما صادقا، ويبلغ فيه من العلم مبلغا صالحا.
فحضرتني النية في إطلابهم ما سألوه من ذلك، وثابت إلي الرغبة
1 / 103
في إسعافهم بما التمسوه منه، ورأيت في حق الدين وواجب النصيحة لجماعة المسلمين أن لا أمنع ميسور ما أسبغ له من تفسير المشكل من أحاديث هذا الكتاب وفتق معانيها، حسب ما تبلغه معرفتي ويصل إليه فهمي، ليكون ذلك تبصرة لأهل الحق، وحجة على أهل الباطل والزيغ، فيبقى ذخيرة لغابر الزمان، ويخلد ذكره ما اختلف الملوان. والله الموفق لذلك، والمعين عليه، والعاصم من الزلل فيه بمنه ورأفته.
وقد تأملت المشكل من أحاديث هذا الكتاب والمستفسر منها فوجدت بعضها قد وقع ذكره في كتاب معالم السنن مع الشرح له والإشباع في تفسيره، ورأيتني لو طويتها فيما أفسره من هذا الكتاب وضربت عن ذكرها صفحا اعتمادا مني على ما أودعته ذلك الكتاب من ذكرها كنت قد أخللت بحق هذا الكتاب فقد يقع هذ عند (من) لا يقع عنده ذاك، وقد يرغب في أحدهما من لا يرغب في الآخر ولو أعدت فيه ذكر جميع ما وقع في ذلك التصنيف كنت قد هجَّنت هذا الكتاب بالتكرار، وعرضت الناظر فيه للملال، فرأيت الأصوب أن لا أخليها من ذكر بعض ما تقدم شرحه وبيانه هناك متوخيا الإيجاز فيه، مع إضافتي إليه ما عسى أن يتيسر في بعض تلك الأحاديث من تجديد فائدة وتوكيد معنى زيادةً على ما في ذلك الكتاب ليكون عوضا عن الفائت وجبرا للناقص منه، ثم إني أشرح
1 / 104
بمشيئة الله الكلام في سائر الأحاديث التي لم يقع ذكرها في معالم السنن وأوفيها حقها من الشرح والبيان.
فأما ما كان فيها من غريب الألفاظ اللغوية فإني أقتصر من تفسيره على القدر الذي تقع به الكفاية في معارف أهل الحديث الذين هم أهل هذا العلم وحملته دون الإمعان فيه والاستقصاء له على مذاهب أهل اللغة من ذكر الاشتقاق والاستشهاد بالنظائر ونحوها من البيان، لئلا يطول الكتاب، ومن طلب ذلك وجد العلة فيه مراضة بكتاب أبي عبيد ومن نحا نحوه في تفسير غريب الحديث.
وأما استناد هذا الكتاب وسماعه فإنا لم نلحق من أصحاب محمد بن إسماعيل الذين شاهدوه وسمعوا منه لقدم موته، فإنه مات ﵀ على ما بلغنا، سنة ست وخمسين ومائتين. وقد سمعنا
1 / 105
معظم هذا الكتاب من رواية إبراهيم بن معقل النسفي حدثناه خلف بن محمد الخيام قال: حدثنا إبراهيم بن معقل عنه سمعنا سائر الكتاب إلا أحاديث من آخره من طريق محمد بن يوسف الفَرَبْري، حدثنيه محمد بن خالد بن الحسن قال: حدثنا الفربري عنه، ونحن نبين مواضع اختلاف الرواية في تلك الأحاديث إذا انتهينا إليها إن شاء الله.
قال أبو سليمان ﵀ صدَّر أبو عبد الله كتابه بحديث النية وافتتح كلامه به، وهو حديث كان المتقدمون من شيوخنا ﵏ يستحبون تقديمه أمام كل شيء يُنشأ ويبتدأ من أمور الدين، لعموم الحاجة إليه في جميع أنواعها ودخوله في كل باب من أبوابها.
1 / 106
كتاب بدء الوحي
(١) (باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ:
١/ ١ - حدثنا خلف بن حمد قال: حدثنا إبراهيم بن معقل قال: حدثنا محمد بن إسماعيل قال: حدثنا الحمدي قال: حدثنا سفيان قال أخبرنا يحيى بن سعيد الأنصاري قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول: سمعت رسول الله ﷺ
1 / 107
يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
قال أبو سليمان ﵀ هكذا وقع في رواية إبراهيم بن معقل عنه، مخرما، قد ذهب شطره، ورجعت إلى نسخ أصحابنا فوجدتها كلها ناقصة لم يذكر فيها قوله: (فمن كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله). وكذلك وجدته في رواية الفربري أيضا، فلست أدري كيف وقع هذا الإغفال، ومن جهة من عرض من رواته؟ وقد ذكره محمد بن إسماعيل في هذا الكتاب في غير موضع من طريق الحميدي فجاء به مستوفى رواه عن أبي النعمان: -محمد بن الفضل- عن حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، ورواه أيضا عن قتبة، عن عبد الوهاب، عن
1 / 108
يحيى بن سعيد فما خرم منه شيئا. ولست أشك في أن ذلك لم يقع من جهة الحميدي فقد رواه لنا الأثبات من طريق الحميدي، تاما غير ناقص.
أخبرنا ابن الأعرابي قال: حدثنا أبو يحيى بن أبي (ميسرة)، قال: حدثنا الحميدي ح وحدثنا أحمد بن إبراهيم بن مالك الرازي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: أخبرنا يحيى بن سعيد قال: حدثنا محمد بن إبراهيم التيمي أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن
1 / 109
كانت هجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
اللفظ للرازي (فهذه) رواية الحميدي عن سفيان، تامة غير ناقصة كما ترى، والله أعلم من أين عرض التقسير فيه، ولا أعلم خلافا بين أهل الحديث في أن هذا الخبر لم يصح مسندا عن النبي ﷺ إلا من رواية عمر بن الخطاب ﵁ وقد غلط بعض الرواة فرواه من طريق أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ.
1 / 110
حدثنا إبراهيم بن فراس، قال: حدثناه موسى بن هارون قال: حدثنا نوح بن حبيب قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد قال: حدثنا مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: (إنما الأعمال بالنية ولكل امرئ ما نوى). فذكر نحوا من حديث عمر ﵁ وهذا عند أهل المعرفة بالحديث مقلوب، وإنما هو إسناد حديث آخر ألصق به هذا المتن. ويقال: إن الغلط إنما جاء فيه من قبل نوح بن حبيب البذشي.
1 / 111
وهذا الحديث أصل كبير من أصول الدين ويدخل في أحكام كثيرة، ومعنى النية: قصدك الشيء بقلبك، وتحري الطلب منك له. وقيل: هي عزيمة القلب. وقال بعض أهل اللغة: أصل النية الطلب. ويقال: لي عند فلان نية ونواة، أي طلبة وحاجة وأنشد لكثير:
وإن الذي ينوي من المال أهلها .... أوارك لما تأتلف وعوادي
يريد ما يطلبونه من المهر.
وقوله: (إنما الأعمال بالنيات). لم يرد به أعيان الأعمال؛ لأنها حاصلة حسا وعيانا بغير نية، وإنما معناه أن صحة أحكام الأعمال في حق الدين إنما تقع بالنية، وأن النيات هي الفاصلة بين ما يصح منها وبين ما لا يصح، وكلمة (إنما) عاملة بركنيها إيجابا ونفيا، فهي تثبت الشيء وتنفي ما عداه، فدلالتها أن العبادة إذا صحبتها النية
1 / 112
صحت، وإذا لم تصحبها لم تصح، ومقتضى حق العموم منها يوجب أن لا يصح عمل من الأعمال الدينية أقوالها وأفعالها إلا بنية دخل فيها التوحيد الذي هو رأس أعمال الدين فلا يصح القول بالتوحيد إلا بمعرفة وقصد إخلاص فيه، وكذلك سائر أعمال الدين، من الصلاة والزكاة والصيام والوضوء بالماء والتيمم بالتراب، فلو أن رجلا غسل أعضاء الوضوء من بدنه تبردا أو تنظفا لم يجزه أن يصلي بذلك حتى ينوي بالوضوء رفع الحدث، وكذلك لو فعله يريد به تعليم غيره الوضوء. ومثل ذلك لو انغمس في نهر ليتعلم سباحة أو يصطاد سمكا، أو يستخرج من قعره شيئا، أو ليأخذ ما يطفو على متنه من غثاء وحطب في نحو ذلك، لم يجز أن يصلي بشيء منها حتى يكون قصده بمس الماء نوعا من العبادة التي لا تجزي [تجزئ] إلا بطهارة. ويدخل في عمومه فرض الأعمال ونفلها وقليلها وكثيرها.
وقوله: (وإنما لكل امرئ ما نوى). تفصيل لبيان ما تقدم ذكره، وتأكيد له، وفيه معنى خاص لا يستفاد من الفصل الأول، وهو إيجاب تعيين النية للعمل الذي يباشره، فلو نوى رجل أن يصلي أربع ركعات عن فرضه إن كان قد فاته، وإلا فهي تطوع لم تجزه عن فرضه، لأنه لم يمحِّض النية له ولم يعينه بأن لا يشرك معه غيره وإنما داول في النية بين الفرض وبدله، فلم تجد النية قرارا، وكذلك هذا فيمن نوى في آخر ليالي شعبان أن يصوم غدا عن فرض رمضان إن أهل الهلال، وإلا فهو تطوع، فصادف صومه الشهر لم
1 / 113
يجزه عن فرضه، وكذلك هذا فيمن فاتته صلاة من الصلوات الخمس، لا يعرفها بعينها، فإن عليه أن يصليها كلها، ينوي كل واحدة منها عن فرضه، وقد زعم بعضُ من ينتسب إلى مذهب الشافعي ﵀ أنه قد يمكنه استدراك الفائت من فرضه بأن يصلي أربع ركعات، يجهر في الأوليين منها ويقعد في الثانية ويتشهد، ويصلي على النبي ﷺ، ثم يصلي الثالثة ويقعد فيها ويتشهد، ويصلي على النبي ﷺ، ثم يقوم إلى الرابعة فيصليها ويقعد للتشهد والصلاة، ثم يسلم، فتكون الثالثة كزيادة ركعة، بالشك على الفريضة إن كان الفائت صبحا، والرابعة كذلك زيادة ركعة، بالشك على فرضه إن كان مغربا ويكون تمام الأربع عن سائر الفرائض أيتها فاتته. وهذا لا يصح عند أكثر أصحاب الشافعي على مذهبه، ولكنه قد يتوجَّه على مذاهب بعض فقهاء العراق فإنه قال: إذا فاتته صلاة يوم وليلة صلى ركعتين للفجر وثلاثا المغرب وأربعا تجزئه عن أيتها كانت من الصلوات الثلاث، وذلك لأنه لم يراع التعيين في الفائتة إنما راعى الصفة فيها.
فأما موضع النيات فإنها تختلف، منها ما تجب المحاذاة بها للعمل الذي ينوي له كالصلاة والطهارة. ومنها ما يجوز تقديمها على العمل كالصيام. ومنها ما يتضمن النية جملة أفعال متفرقة ينتظمها اسم واحد، فتنوب النية الواحدة عنها كلها وقد تتأخر نية التعيين عن وقت إنشاء الإحرام، ثم يصرفه إلى ما أحب من الحج والعمرة مفردا لكل واحدة منها أو جامعا بها بينهما. وقد يقع في بعض الأعمال على إبهام، ثم يقع التعيين لموضعها فيما بعد، كمن عليه كفارتان من قتل نفس وظهار
1 / 114
وهو واجد للرقبة، فإذا أعتق رقبة ولم تحضره النية عن العتق نواه فيما بعد لأيتهما شاء. وعلى (كل) حال فلا ينفك عمل من أعمال العبادات عن نية ما، ولا يق شيء منها محتسبا بها في ذات الله إلا بها، وإنما جاز التقديم والتأخير فيها لعلل وأسباب ليس هذا موضع ذكرها.
وقد ذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبو ثور إلى أن الحاج إذا طاف طواف الإفاضة ولم ينوه عن الفرض لم يجزه، وجوزه الشافعي؛ لأن النية الأولى قد تضمن جميع أفعال الحج، وكذلك قال سفيان الثوري وأصحاب الرأي.
وقال مالك بن أنس في الصرورة: إذا نوى الحج عن غيره وقع عن المحجوج عنه.
1 / 115
واحتج له بعض أصحابه بقوله ﷺ: (إنما الأعمال بالنيات) وهذا قد نواه عن زيد فلا يقع عن عمرو. قال: ولو كان الحج واقعا عن نفسه لحصل بلا نية. (وقد خصت النية بأن لا صحة لعمل من أعمال الدين إلا بنية).
ومما يجب عليك أن تحكمه في هذا الباب تقدمة المعرفة بأمور منها:
أن تعرف الشيء الذي تعبدت به، وأن تعلم أنك مأمور به، وأن تطلب موافقة الآمر فيما تعبدت به، فإنك إذا لم تعلم صفة ما أمرت به لم يتأت لك فعله على الوجه الذي تعبدت به، ومن فعل المأمور به من غير أن يعرف أنه مأمور به أو في جملة المأمورين به لم يكن في فعله مطيعا للآمر، ومن عرف الآمر ثم لم يقصد بفعله المأمور به موافقة الآمر لم يكن ممتثلا لأمره وهذا جملة من أمر علم النية وما يدخل في معناها.
وقد يستدل من هذا الحديث في مواضع من أحكام المعاملات وما يتصل بها مما ليس من باب العبادات المحضة، منها أن يستدل به على أنه من أكره على الكفر فتكلم به على التقية وهو ينوي معنى يخالف ظاهر القول الذي جرى على لسانه أنه لا يكفر به، فكذلك من أكره على يمين بظلم أو أكره على طلاق إذا ألحد في النية إلى غير
1 / 116