فصل " في الدليل على حدث الإنسان وإثبات محدثه " أقرب ما يستدل به الإنسان على حدثه وإثبات محدثه، ما يراه من حاله وتغيره الواقع بغير اختياره وقصده، كالزيادة والنقص المعترضين في جسمه وحسه، و [ما] (1) يتعاقب عليه من صحته وسقمه، وينتقل إليه من شيبته وهرمه، وأنه لا يدفع فيه من ذلك طارئا موجودا ولا يعيد ماضيا مفقودا، لو نقصت منه جارحة لم يقدر على التعويض منها، ولا يستطيع الاستغناء في الإدراك بغيرها عنها، لا يعلم غيب أمره، ولا يتحقق مبلغ عمره، وقدر (2) متناهية، وبنية ضعيفة واهية.
فيعلم بذلك أن له مصورا صوره، ومدبرا دبره لأن التصوير والتدبير فعلان لم يحدثهما الإنسان لنفسه، ولا كانا بقدرته، والفعل فلا بد له من فاعل، كما أن الكتابة لا غنى بها عن كاتب.
ثم يعلم أن مصوره صانعه ومحدثه، وأن مدبره خالقه وموجده، لأنه لا يصح وجوده إلا مصورا مدبرا.
ثم يعلم أيضا أن محدثه قادر، إذ كان لا يصح الفعل من عاجز.
ويعلم أنه حكيم عالم، لأن الأفعال المحكمة لا تقع إلا من عالم.
ثم يعلم أنه واحد، إذ لو كان اثنين لجاز اختلاف مراديهما فيه، بأن يريد أحدهما أن يميته، ويريد الآخر أن يحييه، فيؤدي ذلك إلى وجود المحال، وكونه ميتا حيا في حال، أو إلى انتفاء الحالين وتمانع المرادين، فيبطل ذلك أيضا ويستحيل، وهذا يبين أن صانعه واحد ليس باثنين.
ويعلم أنه لا يجوز على محدثه النقص والتغيير، وما هو جائز على المحدثين، لأن في جواز ذلك عليه مشابهة للمصنوعين، وهو يقتضي وجود صانع له أحدثه وصوره ودبره، إما محدث مثله أو قديم، وفي استحالة تنقل ذلك إلى ما لا يتناهى، دلالة على أن صانعه قديم.
صفحه ۳۵