وكان حسن العشرة رضي الأخلاق، كثير الاختلاف إلى محلات اللهو، ثم جاء يوم اعتزل فيه فجأة عشرة الناس، فاستقال من رئاسة النادي الذي كان يجتمع فيه مع أصدقائه، واحتجب عن الناس، فسافر مدة عامين إلى مصر وتركيا وشطوط البحر الأسود، ثم ذهب إلى روسيا وأسوج فالدنمارك، وعاد إلى فرنسا بطريق هولندا.
ولم يكن يصحبه في هذه الرحلة غير خادم غرفته - وصيفه - وهو رجل يناهز الأربعين من العمر يدعى ميشيل، ولكنه كان عنده فوق منزلة الخدم، بل كان صفيه وكاتم سره، وقد زالت من بينهما الكلفة كما سترى من خلال محادثتهما.
ولما عاد من السفر ذهب توا إلى أراضيه في الريف، وأقام هناك لا يلهو بغير الصيد، وبإدارة ثروته وثروة امرأة أخيه، فقد عين وصيا شرعيا عليها بعد جنونها.
ففيما هو جالس في غرفته يفكر بعد انصراف بول، فتح الباب ودخل منه ميشيل، فقال له البارون: ماذا ترى؟
فأقفل ميشيل الباب، واستند إلى الكرسي الذي كان البارون جالسا عليه وقال له: يظهر يا سيدي البارون أنك مستاء من هذا الرجل الذي زارك، فقد كان زري الملابس، ولكنه كان يكلمك بلهجة تدل على أنه كان بينك وبينه صلات قديمة.
فوقف البارون، وأخذ يسير إقبالا وإدبارا، ثم قال له: أتعرف هذا الرجل يا ميشيل؟
قال: كلا، ولكني أظنه «بول سابري» الذي تذكر اسمه كل ليلة في أحلامك، فانتفض البارون وقال له: اسكت ... اسكت!
فلم يمتثل ميشيل، بل قال له: لقد خيل لي أنه ذهب من عندك مستاء، ولا شك أن الاحتيال قبيح، ولكن لا بد من الرضى به في بعض الأحيان، وإني أرى أن هذا الشقي قد لا يقف عند حد. - ماذا يستطيع أن يفعل؟ - يستطيع أن يذكر حكاية الصندوق. - ليس لديه برهان. - غير أنه إذا روى هذه الحكاية فقد يصدقها كثيرون من الناس. - وهب أنهم صدقوها، فماذا يكون؟ - يكون أن أهل هذه البلاد يسيئون الظن بك، لا سيما وأنهم حاقدون عليك لعنفك وغطرستك.
فاحتدم غيظا وقال: سأزيدهم عنفا! - إنك مخطئ يا سيدي البارون، فهل تأذن لي أن أقول ما أعتقده؟
قال: قل. - أرى أن العاصفة ترعد فوق رأسينا، فإن أهالي سانت مرتين لا ينفكون يتحدثون بحادثة القصر المحروق واستبدال الطفل، وقد أكثروا من ذكر ذلك منذ عهد قريب. - وماذا علي من أحاديثهم؟ - إذا لم يكن «السيئ البخت» قد مات ... - قال: لا أعلم، ولكن لا يبعد أن يكون في عداد الموتى. - ربما، ولكن هذه الحقيقة لا يعلمها غير بول سالبري. - دون شك، وهذا الذي يريح بالي، فلو كان السيئ البخت حيا لما لقيت من بول هذا الخضوع والاستكانة. - ماذا أعطيته؟ - عشرين دينارا، فخرج دون أن يفوه بكلمة. - ولكنه خرج ليذهب إلى قرية سانت مرتين.
صفحه نامشخص