وبينما هما في الحديث جاءت ريحانة مسرعة وهي تقول: «قد أعددت ما يلزم وجمعت كل الحلي والنقود والثياب، وهي كثيرة تحتاج إلى عدة بغال لحملها، وأوصيت الخادم أن يعد الأفراس والبغال.»
فقال صالح: «هلم بنا يا مولاتي.»
فنهضت وخرجت من القاعة حتى أطلت على الحديقة فسمعت صهيل الأفراس، ورأت البغال وعليها الأحمال، وتصورت أنها خارجة من البيت الذي ولدت فيه، وربيت بين أشجاره وجدرانه في عز ونعيم، وحولها الجواري والحشم كأنها سلطانة في مملكة، فكيف تخرج منه هاربة إلى دار غريبة لم تطأها قدمها من قبل، وفي مشروع عظيم يعجز عنه كبار الرجال، فغلب عليها ضعف النساء فدمعت عيناها. وكان صالح يرقب حركاتها ويخشى ضعفها، فلما لاحظ ذلك عليها ابتدرها قائلا: «لا بد لنا من السرعة قبل أن يدركنا ذلك الظالم برجاله ويقبض علينا جميعا فينال منا ما يريد، وتذهب مساعينا هباء، فاختاري من خدمك اثنين أو ثلاثة تثقين بهم يكونون معنا لخدمتك، أو لمهام أخرى.»
فلما سمعت تهديده هان عليها الخروج، وقنعت بالنجاة، والتفتت إلى ريحانة وقالت: «من ترين أن نصطحب من الخدم الأمناء؟»
فأجابتها على الفور: «نصطحب سعيدا الصقلبي؛ فإنه أمين ويقظ، فيكون في خدمتك خاصة، ونأخذ معنا أبا العينين؛ لأن أصله من العراق ويعرف عادات البلاد وطرقها، فيكون عونا لنا ودليلا، وهو إلى ذلك نشط أمين. وإذا شئت خادما ثالثا، فسليمان الحلبي لا بأس به؛ لأن أصله من الشام.»
فاستصوبت جلنار رأيها وقالت لها: «ابعثي إليهم وأتينا بهم سريعا.»
فذهبت ريحانة كما أمرتها ، ووقفت جلنار في انتظارها وهي تفكر في أمرها، ومصير ذلك القصر وأهله، فقالت في نفسها: «إن أهل هذا القصر لا يزالون سعداء؛ لأنهم لم يعلموا بما أصاب مولاهم، ولا بما يهددهم من الخطر في الغد.» ثم نظرت إلى صالح وقالت له: «هل تترك أهل هذا القصر معرضين للقتل والأسر ونحن نعلم بما يهددهم؟ ألا ترى أن نخبرهم بما أصاب والدي ونحذرهم؟»
قال: «لا بد من ذلك، ولكن بعد خروجنا ونجاتنا بما معنا.»
فعلمت أنه لم يفته شيء من التدبير فسكتت، ثم جاءت ريحانة وجاء الخدم الثلاثة: سعيد الصقلبي؛ أصله من سبي الأندلس لما فتحها موسى بن نصير سنة 92ه؛ إذ جمع من السبي كثيرا، وفيهم الغلمان والنساء. وكان سعيد يومئذ في الخامسة من عمره، فوقع في نصيب أحد الجند فباعه لأحد النخاسين الذين يتجرون بالخصيان البيض، فخصاه وضمه إلى من كان عنده وسماه سعيدا، ثم انتقل سعيد بالبيع إلى دهقان مرو، وعاش في منزله مدة طويلة، وكان يتكلم العربية والفارسية، ونسي لغة بلده. وقد سموه صقلبيا لبياضه. وكان طويل القامة، طويل الساقين، صغير العينين، صوته كصوت النساء، ووجهه قليل الشعر.
وأما أبو العينين، فقد لقب بذلك لكبر عينيه وجحوظهما، وأصله من أنباط العراق، دخل في خدمة الدهقان منذ صغر سنه بلا شراء، وانقطع إليه وهو يعد نفسه من رقيقه.
صفحه نامشخص