فقال الضحاك والاهتمام باد في وجهه: «لا ينبغي لنا أن نطاوع مولاتنا الدهقانة في ضعفها؛ فإنها لا تعلم شيئا من أمور هذه الدنيا، وهي مع ذلك تريد الوصول إلى أبي مسلم، والوصول إليه لا يكون إلا بالخلاص من ابن الكرماني، وقد أتيتها بخاتمه شهادة على إرادته، فهي الآن أحوج من أبي مسلم إلى قتله؛ لأنه خطيبها، وكنا قيدناه بعهده ألا يقربها إلا بعد فتح مرو، وقد فتحت وهو الذي فتحها، وتوافد عليه الشعراء والمهنئون، وبلغ قمة مجده؛ فهل من سبيل إلى دفعه بغير الموت؟ ولا يتم لنا ذلك إلا بقتله سرا.» ثم سكت وحك ذقنه بسبابته، ثم حك وراء أذنه وقال: «طيب. أنا لا أكلفك ولا أكلف الدهقانة أن تتوليا هذا الأمر مباشرة؛ فأنا أدبر الحيلة، ولكن ينبغي أن يكون ذلك بوجودكما، وأنا أسقيه ذلك الكأس بأسلوب لطيف، والأحسن ألا تطلعي الدهقانة على هذا العزم. إنما أطلب إليك أن تسهلي الوصول إليه بحيث لا يعلم أحد من العالمين بقصدي. إيه؟»
فظلت ساكتة ولم تعلم بماذا تجيبه، ولكنها كانت في كل حال أصبر على هذا الأمر من جلنار وقد عاشرت الدنيا طويلا، على أنها ما زالت مرتبكة لا تدري هل توافق الضحاك بغير استئذان سيدتها. فلما رآها الضحاك ساكتة علم أنها مرتبكة فقال لها: «قد فهمت ما يجول في خاطرك. لا تخافي سيجري كل شيء ولا يشعر به أحد؛ فاكتمي هذا الأمر عن الدهقانة، وسترين كيف أعمل عملي بلباقة وخفة.» قال ذلك وتحول وهو يقول: «سأعود إليكم قريبا، واحذري أن تبيحي بذلك إلى أحد.»
فعادت ريحانة إلى سيدتها وهي تفكر في ماذا عسى أن تكون حيلة الضحاك وأسلوبه، فدخلت على سيدتها فسألتها عما كانت تعمله، فأخبرتها بما شاهدته من بقاء معسكر ابن الكرماني على حاله بمرابطه وفساطيطه وسائر أحواله، وأن عليا في فسطاطه كالعادة، وحدثتها نفسها أن تبيح لها بما قاله الضحاك، فتمالكت وسكتت لترى ما يكون.
الفصل الرابع والأربعون
الدب الرقاص
أما ابن الكرماني، فبعد أن فتحت مرو عاد إلى معسكره بإشارة أبي مسلم، وعاد معه الأمراء اليمنية وقد سرهم الفتح بعد أن أبلوا بلاء حسنا، وعاد ابن الكرماني توا إلى فسطاطه؛ ليبدل ثيابه ويستقبل المهنئين. وكان في خاطره أن يذهب حالا إلى جلنار ليريها نفسه عائدا من ذلك الفتح، ويخبرها أنه انتقم لوالده كما وعدها بالأمس، ولكنه أجل ذهابه إلى ما بعد استقبال المهنئين والمنشدين في فسطاطه؛ لئلا يتبعوه إلى هناك، فجلس في صدر الخيمة وجلس أمراؤه بين يديه وهم يطنبون ببسالته، وكل منهم يذكر ما لاقاه في أثناء المعركة من الوقائع الغريبة، ثم أذن للشعراء فدخلوا وأنشد كل منهم ما جادت به قريحته، فإذا فرغ أحدهم من الإنشاد يشير الأمير إلى كاتبه أن يدفع إليه الجائزة على جاري العادة. وفيهم من ينشد قصيدته على الأنغام الموقعة على الطنبور أو العود أو الدف. قضوا في ذلك بقية يومهم إلى قبل الغروب، وقد طربوا جميعا إلا عليا؛ فقد نغصه غياب جلنار عن تلك الجلسة، وود لو أنها هناك لتسمع ما قيل فيه من المدائح.
وهو في ذلك إذ سمع ضجيجا يتخلله دف ينقرون عليه نقرا خاصا بالرقص، ثم دخل غلام يستأذن الأمير في راقص مضحك معه دب غريب الشكل. وكان الغلام يستأذن الأمير ولا يتمالك عن الضحك. كان أخرجه الإعجاب عن حد الاحتشام في حضرة الأمراء، فقال الأمير: «يدخل.»
فدخل رجل طويل القامة عرف الأمراء كلهم أنه الضحاك؛ خادم الدهقانة، وكانوا يستخفون دمه ويضحكون من مجرد رؤيته، فلما دخل ألقى التحية وتماجن، فلم يتمالك الأمير عن الضحك وصاح فيه: «ويلك! أي متى صرت رقاصا؟»
قال: «حالما فتح مولاي الأمير مرو؛ عاصمة خراسان؛ فقد نذرت منذ صرت من أتباعه أن أرقص يوم الفتح، وقد جئت لأفي نذري.»
فضحك الأمير وقد سره أن يسمع ذلك الإطناب من رجل ينتمي إلى الدهقانة؛ لأنه إنما يهمه إعجابها هي؛ فكم من بطل خاض المعامع، واستقبل النبال، وعرض نفسه لأشد الأهوال؛ التماسا لابتسامة حبيب يحبه! تلك هي لذة النصر في أعلى درجاتها. وأراد علي أن يسأل عن الدهقانة فاحتشم بين يدي الأمراء، ولكنه استأنس بالضحاك كثيرا وقال له: «هل أنت الرقاص حقيقة؟»
صفحه نامشخص