فقاطعه المعري منشدا:
جهلت أقاضي المصر أكبر مأثما
بما ناله، أم شاعر يتغزل؟
ألهذا يا بني قد شهروه وقدروه، وبهذا يا بني قد أكبروا ذكره وسيروه؟
فأحس التلميذ لهجة التأفف والاستنكار في سؤال الحكيم المعرض عن الشهوات واللذات، وجاراه من حيث لا يشعر قائلا: بل لعلهم قد شهروه لمغامراته في الحرب والسياسة كما شهروه بمغامراته في الحب والغواية.
قال المعري: وما ذاك؟
قال التلميذ: إنه كان من أهل بلد صغير فصلوه من موطنه الكبير، فلما كانت الحرب التي يسمونها بالحرب العظمى طمع في رجعة ذلك البلد وسعى إلى الوصل بين منشأ أهله ومستقر قومه، فحالت الحوادث دون ما طمع فيه وسعى إليه، فحمل السلاح وغزا ذلك البلد وأقام نفسه حاكما عليه وأبى أن يبرحه إلا وهو قتيل، بل جعل يصيح على مسمع العالم كله: إنه لن يبرحه وهو قتيل، لأنه أقسم ليموتن فيه وليدفن في ترابه، بل أقسم ليكونن هناك نصيرا لكل من أضاع وطنا أو غضب على وطن، ونادى بدعوته فإذا هي كما قال: «أعظم الدعوات وأجملها وأشدها نقمة على خسة العالم الشائخ وهتره وتخريفه في هذه الأيام، لأنها تمتد من أيرلندة إلى مصر، ومن مصر إلى الروسيا فأمريكا، ومن رومانيا إلى الهند: تجمع الشعوب البيضاء والشعوب ذات الألوان، وتصلح بين وحي الإنجيل ووحي القرآن، وتمشي بالوئام بين أتباع عيسى وأتباع محمد، وتمزج في إرادة واحدة كل ما وسعته الأمم في نخاعها وفي عروقها من ملح وحديد لإمداد النفوس بغذاء العمل والحركة. وسننتصر لا محالة! وسينضوي الثائرون من جميع الأمم بين جميع أبناء آدم إلى أعلامنا، وسينتضي العزل المظلومون سلاحنا، وسندفع العنف بالعنف والشدة بالشدة، ونشنها غارة جديدة كغارة الصليبيين لنصرة المساكين وإغاثة الأمم الفقيرة المنزوفة، ونرسلها شعواء على المرابين والمبتزين الذين غنموا بالأمس أسلاب الحروب ويغنمون اليوم أسلاب السلام.»
قال المعري: أضغاث أحلام، وشطحات أوهام. ثم ماذا كان من شأنه في ذلك البلد، وماذا كان من شأنه مع المظلومين والمستضعفين؟
فابتسم التلميذ وقال: هو ما تقول أيها الحكيم. فما هي إلا أضغاث أحلام وشطحات أوهام، وما هو إلا أن تبدل الوزراء في حكومة بلاده حتى خرج حيا من البلد الذي أقسم ليموتن فيه وليدفنن في ترابه، وما كان قد دخله من قبل إلا وهو على تواطؤ مع قادة الجيش ورجال الدولة، فلم يمنعوه، ولم يقفوا في طريقه.
فابتسم الحكيم ابتسامته المرة وعاد يسأل وكأنه يعلم جواب ما سأل عنه قبل الإفضاء به إليه: والمساكين المستضعفين؟
صفحه نامشخص