ففيما يتعلق بالحاضر لا يمكن لحكومة جلالته تنفيذ اقتراحاتها بدون رضاء الأمة المصرية واشتراكها، ولكن حكومة جلالته تحافظ على الرغبة التي كانت لديها على الدوام، وهي العمل على إنماء مواهب المصريين بزيادة عدد الموظفين منهم في كل فرع، ولا سيما في الفروع الإدارية العالية التي كثر فيها عدد الموظفين الأوروبيين، وحكومة جلالته مستعدة لأن تواصل بمشاورة حكومة عظمتكم المفاوضات مع الدول الأجنبية لأجل إلغاء الامتيازات؛ لكي يكون الموقف الدولي جليا عندما يحين وقت إصدار التشريع المصري الذي سيحل محل تلك الامتيازات، وكذلك ترجو حكومة جلالته أن السلطة التي يباشرها الآن القائد العام تحت القانون العسكري، تباشرها الحكومة المصرية وحدها بمقتضى القوانين المدنية المصرية، وهي تسر برفع الأحكام العسكرية حالما يصدر «قانون التضمينات» ويعمل به في كل المحاكم المدنية والجنائية في مصر.
وهو قانون لا بد منه لحماية الحكومة المصرية، وحماية السلطة البريطانية في مصر.
وأما من جهة المستقبل، فإن حكومة جلالة الملك ترغب أن توضح بعبارة جلية السياسة التي تنوي اتباعها؛ فقد علمت أن المشروع الذي قدمته إلى وفد عظمتكم قد رفض بحجة أن الضمانات التي تضمنها المشروع لصيانة المصالح البريطانية والأجنبية؛ تقضي على التمتع بالحكومة الذاتية تمتعا صحيحا، وهي تأسف غاية الأسف على أن استبقاء الجنود البريطانية في مصر واشتراك الموظفين البريطانيين مع وزارتي الحقانية والمالية يساء فهم المراد منهما إلى هذا الحد. إذا كان الشعب المصري يستسلم إلى أمانيه الوطنية - مهما كانت هذه الأماني صحيحة ومشروعة في ذاتها - دون أن يكترث اكتراثا كافيا بالحقائق التي تستحكم في الحياة الدولية، فإن تقدمه في سبيل تحقيق مطمحه الأسمى لا يصيبه التأخير فقط بل يتعرض للخطر تعرضا تاما؛ إذ ليس من فائدة ترجى من وراء التصغير من شأن ما على الأمة من الواجبات، وتعظيم ما لها من الحقوق، وأن الزعماء المتطرفين الذين يدعون إلى هذا لا يعملون على نهوض مصر بل يهددون رقيها. وهم بما كان لهم من الأثر في مجرى الحوادث قد تحدوا مرة بعد مرة الدول الأجنبية في مصالحها وأثاروا مخاوفها، وكذلك عملوا في الأسابيع الأخيرة على التأثير على مصير المفاوضات بنداءات مهيجة استثاروا بها جهل العامة وشهواتهم. وأن حكومة جلالة الملك لا تعتبر أنها تخدم مصلحة مصر بتساهلها إزاء تهييج من هذا القبيل، ولن يمكنوا مصر أن تسير في سبيل الرقي إلا متى أظهر قادتها المسئولون من الحزم والعزيمة ما يكفل قمع مثل هذا التهييج، فإن العالم الآن تألم من جهات عديدة من الاندفاع في نوع من الوطنية المتعصبة المضطربة، وحكومة جلالة الملك تقاوم هذا النوع من الوطنية بكل شدة سواء في مصر أو في غيرها، وأن أولئك الذين يستسلمون لتلك النزعات إنما يعملون على جعل القيود الأجنبية التي يطلبون الخلاص منها أشد لزوما، وبذلك يطيلون أجلها.
وإذ كان الأمر كذلك، فإن حكومة جلالة الملك مراعاة لمصلحة مصر ومصلحتها الخاصة أيضا تستمر بلا تردد على مواصلة غرضها كمرشدة لمصر، وأمينة على مصالحها، ولا يكفيها أن تعلم أن في استطاعتها العودة إلى مصر إذا تبين أن مصر بعد أن تركت لنفسها بغير معونة قد عادت إلى عهد التبذير والاضطراب الذي لازمها في القرن الماضي. فرغبة حكومة جلالة الملك أن تستكمل العمل الذي بدئ به في عهد اللورد كرومر لا أن تبدأه من جديد، وهي لا تنوي أن تبقي مصر تحت وصايتها بل - بالعكس - ترغب في تقوية عناصر التعمير في الوطنية المصرية، وتوسيع مجال العمل أمامها، وتقريب الوقت الذي يمكن فيه تحقيق المطمح الوطني تحقيقا تاما ، ولكنها ترى من الواجب أن تصر على الاحتفاظ بالحقوق والسلطة الفعالة لأجل صيانة مصالح مصر ومصالحها الخاصة على السواء، وذلك إلى أن يظهر الشعب المصري أنه قادر على صيانة بلاده من الاضطراب الداخلي، وما يترتب عليه حتما من تداخل الدول الأجنبية.
وسبيل التقدم الوحيد للشعب المصري يقوم على تآزره مع الإمبراطورية البريطانية لا على تنافرهما، وحكومة جلالته لرغبتها في هذا التآزر مستعدة فيما يتعلق بها إلى البحث في أية طريقة قد تعرض عليها لأجل تنفيذ اقتراحاتها في جوهرها، وذلك في أي وقت تريده حكومة عظمتكم، على أنها مع هذا لا يسعها تعديل المبدأ الذي بنيت عليه تلك الاقتراحات، ولا إضعاف الضمانات الجوهرية التي تشتمل عليها، وهذه الاقتراحات من مقتضاها أن يكون مستقبل مصر في أيدي الشعب المصري بنفسه، فكلما زاد اعتراف شعبكم بوحدة المصالح البريطانية ومصالحه قلت الحاجة إلى هذه الضمانات. وقادة مصر المسئولون هم الذين عليهم في هذا العهد الثاني من اشتراكهم مع بريطانيا العظمى أن يثبتوا، بقبولهم النظام الوطني المعروض عليهم الآن وبالتزام جانب الحكمة في العمل به، أن المصالح الحيوية للإمبراطورية البريطانية في بلادهم يمكن أن توكل لعنايتهم بالتدريج. (4) رد الوفد الرسمي على مشروع الاتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر
اطلع الوفد الرسمي المصري على المشروع الذي سلمه اللورد كرزون إلى رئيس الوفد بتاريخ 10 نوفمبر سنة 1921.
ولقد رأى أن هذا المشروع تضمن - فيما يتعلق بأكثر المسائل التي تناولتها مناقشاتنا والمذكرات التي تبادلناها منذ أربعة شهور - نفس النصوص والصيغ التي عرضت علينا عند بدء المفاوضات ولم نقبلها حينئذ.
فعن المسألة العسكرية - وهي ذات أهمية كبرى - استبقى المشروع الحل الذي قاومناه أشد مقاومة، ولم يقتصر على ذلك بل توسع في مرماه بما جعله أشد وطأة. على أن حماية المواصلات الإمبراطورية، وهي التي قيل في مفاوضات العام الماضي إنها العلة الوحيدة لوجود قوة عسكرية في القطر المصري، لا تبرر هذا الحل.
ففي حين أنه كان يكفي تعيين نقطة في منطقة القنال تنحصر فيها طرق ووسائل المواصلات الإمبراطورية، وكذلك القوة التي تتولى حمايتها، نص المشروع على تخويل بريطانيا العظمى الحق في إبقاء قوات عسكرية في كل زمان وفي أي مكان بالأراضي المصرية، ووضع أيضا تحت تصرفها كل ما لدى القطر من وسائل المواصلات وطرقها، وهذا إنما هو الاحتلال بذاته، الاحتلال الذي يهدم كل معنى للاستقلال، بل ويذهب إلى حد القضاء على السيادة الداخلية. على أن الاحتلال العسكري في الماضي، ولو لم تكن له إلا صفة مؤقتة، قد كفى لأن يثبت لبريطانيا العظمى المراقبة المطلقة على الإدارة كلها، وإن لم يكن هناك أي نص في معاهدة أو تقرير لأية سلطة.
أما مسألة العلاقات الخارجية، وهي المسألة الوحيدة التي عدلت فيها الصيغة الأولى التي كانت وضعتها وزارة الخارجية البريطانية، وذلك بقبول مبدأ التمثيل، فإن المشروع قد أحاط الحق الذي اعترف لنا به بقيود كثيرة أصبح معها بمثابة حق وهمي؛ إذ لا يتصور أن تتوفر لدى وزير الخارجية الحرية التي يقتضيها القيام بأعباء منصبه وتحمل مسئوليته إذا كان ملزما بنص صريح بأن يبقى على اتصال وثيق بالمندوب السامي، فإن ذلك معناه أن يكون خاضعا في الواقع لمراقبته مباشرة في إدارة الأمور الخارجية، وعدا ذلك فإن الالتزام بالحصول على موافقة بريطانيا العظمى على جميع الاتفاقات السياسية - حتى ما لا يتناقض منها مع روح التحالف - فيه إخلال خطير بمبدأ السيادة الخارجية. وأخيرا فإن استبقاء لقب المندوب السامي، وهو لقب لم تجر العادة بمنحه إلى الممثلين السياسيين لدى البلاد المستقلة، لهو أوضح في الدلالة على طبيعة النظام السياسي المقترح لمصر.
صفحه نامشخص