من حقق النظر في أحاديث ثروت باشا وفي خطبه، وفي خطب وأحاديث سائر أئمة الخطابة والمناظرة في العالم - أمثال ديموسطين وأسكينيز، وديماديس، وبيريكليس، ولوثر، وفوكس، وشانام، وباتريك هنري، وآدمز، وميرابو، وأيسوقراط، وبيرك، وجون بابتست، وهرميت بطرس وجون نوكس - وجد أن أصدق تعريف للخطابة أو الحديث البليغ هو أنه «أفضل كلام صادر عن أفضل روح»، وأنه «عنوان كل ما يحتوي الذهن من آيات الجلال والجمال»، فإذا خرج الخطاب أو الحديث عن كونه مجرد آلة وأداة لتأدية ما يجيش بالصدر من عقائل الأفكار وكرائم المعاني، وأريد به أن يكون غاية في ذاته، وأن يتباهى به ويفتخر كبعض الزخارف والحلي، صار أكذوبة وخدعة، وليس هكذا حديث ثروت باشا ولا خطابه، وما كانت قط هكذا أحاديث الفحول - ممن ذكرنا آنفا - ولا خطاباتهم. أجل، ليس هذا شأن الفحول في كلامهم، وليس بهذا يأمر الإخلاص والصدق والغيرة والإيمان والوطنية، وما زال رجال الجد والإخلاص - أمثال ثروت باشا - يؤثرون الغرض الشريف والعمل الصالح على مجرد المباهاة برنين نغمات البلاغة، والمفاخرة بطنين مطربات البيان والخطابة - أعني يؤثرون الجوهر على العرض والروح على الزي والملبس - وتلك شيمة الإخلاص والنزاهة.
شتان بين كلام المخلص الجاد الغيور صادرا عن أعمق أعماق نفسه، وبين كلام المزخرف المتأنق العابث صادرا عن أغلفة قلبه وقشوره الظاهرية. فهذا الأخير ليس سوى سحابة صيف، وعجالة ضيف، وشيء يولد مع الصباح ويزول وقت الزوال، وشبح يذهب كالظلال بذهاب الأهواء والأميال، وأما الأول فآية تنقش على صحيفة الزمان، وتبقى على الدهر ما بقي الإنسان، وتنتج أعظم النتائج من آثار المدنية ومظاهر العمران، وهل هذه المدنية الحاضرة وآتي المدنيات وماضيها وكل ما يعمرها سالفا وحاضرا ومستقبلا من آثار الإنسان في هذه الحياة ومصنوعاته ومبدعاته ومخترعاته - من دول وممالك، ونظم ودساتير وقوانين، وشرائع وآداب وأخلاق، وعلوم وصناعات وفنون، ومعاملات تجارية واقتصادية وسياسية، وقصور ومدائن وقلاع وكنائس، وهياكل ومتاحف ومقاصف، وكل ما يقوم عليه صرح هذه الحياة الهائلة من دعائم البقاء وأساطين العمران، وكل ما يساعد الإنسان الشقي المسكين على تخفيف عبء الحياة، وتلطيف آلامها، ومعالجة آفاتها ومحنها، وإساغة جرعتها المضيضة ومضغتها المرة، وتليين عجلاتها العسرة المستعصية تسهيلا لسيرها بقافلة الإنسانية التعسة في أوعار هذه الحياة الشاقة الأليمة إلى مثوى الإنسان الأخير في سكينة القبر وهدوئه؛ أقول: هل ترى كل هذه الأشياء المكون منها صرح المدنية ونظام الحياة إلا نتيجة كلمة حق تعبر عن فكرة صالحة؟
أجل، ليس ثروت باشا بالعابث في أحاديثه وخطبه يتوخى التأثير السطحي في الجماهير بطنين الكلم الأجوف الرنان، ويخدع العقول بزبرج الكلام وتزاويقه يبتغي بذلك المفاخرة باللسن والذلاقة، والمباهاة بالحذق واللباقة، ويريغ الشهرة والذكر والجاه والسلطان، ولكنه رجل الجد والإخلاص والصدق قولا وعملا، كثير الإطراق والتفكير، فإذا نطق فما شئت من لب وفضل وحكمة. لا يتصدى بالكلام لغرض من الأغراض، أو مسألة من المسائل، إلا أنار شبهتها، وكشف غامضها، واستثار دفينتها، وهكذا يجب أن يكون الكلام وإلا فلا. إن ثروت باشا ذلك الرجل المجبول بفطرته على الجد والإخلاص والحمية ليرى في قضية البلاد المقدسة أمرا جللا، أعظم من أن يحتمل العبث والتظاهر والمباهاة، والإدلال برنات طنان الكلام وسجعاته. لقد كان الأمر عنده - كما قال توماس كارليل - «أمر حياة أمة أو مماتها، أمر فلاح أو خسران، ومسألة بقاء أو فناء. فلم يك منه إزاء ذلك إلا الجد المر والإخلاص العميق. فأما التلاعب بالكلمات والعبث بالحقائق فليس من شأنه البتة، والعبث والتلاعب في المسائل الحيوية الجلى جريمة من أفظع الجرائم؛ إذ ليس هو إلا رقدة القلب وهجعة العين عن الحقائق وتقلب المرء في مظاهر كاذبة خداعة. فمثل هذا الإنسان لا يقتصر أمره على كون أقواله وأعماله كلها أكاذيب بل إنه هو نفسه أكذوبة. فأنت إذا تأملته في صميم كيانه، ألفيت نور الله - أعني الشرف والمروءة - قد انطفأ فيه سراجه، وخبا وقاده ووهاجه، فهو على الرغم من ذرابة لسانه، وخلابة بيانه، أفاك كاذب، إذ لا يزال مثل هذا الرجل سم الحياة وآفة الإنسانية. فإن غرك برخامة صوته وجرسه، وحلاوة جهره ونبسه، ورقة مسه ولمسه، لم يك في ذلك إلا كحامض الكربون تراه على لطف مسراه، ولين مجراه، سما نقيعا، وموتا ذريعا.»
والآن بعد الذي أوردناه من ذلك الفصل المسهب والمطلب المستفيض في وصف الركن الأول من مناقب ثروت باشا - أعني الملكة الخطابية البيانية بأصولها وفروعها وعددها وآلاتها ودقائقها وأسرارها - ننتقل إلى الركن الثاني من صرح أخلاقه الوطيد الرفيع، أعني دماثة الطبع وعذوبة الشمائل.
لقد جاء في حكمة الأقدمين أنه لن يستطيع مسرة الجلساء وإطرابهم بفنون الأحاديث من كانت روحه خالية من عنصر السرور والطرب. فإن الحديث المشتمل على تحف المعاني وبدائع الأفكار إذا صدر عن روح ساخطة أو غضبى أو متضجرة أو مشمئزة - أعني عن روح متنافرة مع أرواح الجلساء والعشراء - كان جديرا أن يدهش الأذهان ويبهرها، ولكنه ليس جديرا أن ينعش الأرواح ويدخل على النفوس عوامل الأنس والصفو والحبور. فخلة اجتذاب القلوب واستمالة الأهواء محال أن تتوافر لمن كان موحش الناحية، مقفر الجناب، خشن الجانب. فإن الأذهان خلاف الأرواح، وليس من اللازم المحتوم أن الرجل القادر على النفاذ إلى أذهان الناس بروائع كلمه، أن يستطيع بهذه الواسطة وحدها أن ينفذ أيضا إلى قلوبهم وأرواحهم؛ إذ كيف يتأتى له ذلك إذا كان جامد الروح، مظلم الهواء، راكد النسيم، والرجل الخالية نفسه من عوامل الفرح كيف يستطيع إدخال الفرح على نفوس غيره؟
ولذلك قيل إن فن استمالة الغير بأسباب المسرة إنما أساسه أن تكون قبل كل شيء مسرورا في أعماق نفسك، ومن ثم رأينا أن أعاظم كتاب الفكاهة في العالم، الذين قدموا للعالمين أوفر ذخائر السرور والأنس، وأشهى ألوان الطرب والحبور على مائدة الفنون والآداب - أمثال موليير وشاكسبير، وسرفانيتس، وأديسون، وجولد سمث، وفيدلن، وستيرن، وديكنز، وثكري، ورابليه، وماريفوه، وصاحب ألف ليلة - كانوا جميعا من ذوي الطبائع الفرحة الجذلى، والأمزجة الرطبة الخضلة، والصدور المثلوجة القريرة، والنفوس الطيبة الراضية المطمئنة المملوءة بروح الصفاء والاستبشار والتفاؤل. على عكس المتشائمين المتبرمين الغاضبين الثائرين من كتاب الفكاهة - أمثال سويفت وبوب وفولتير وبيرون - الذين قد مزجوا مزاجهم بأنكر الهجاء والتهكم، وخلطوا مجونهم بأمض القذع والسخط والنقمة فجاءت مؤلفاتهم أدعى إلى الإيلام منها إلى الإطراب، وأدنى إلى الإيجاع منها إلى الإعجاب، وأجدر بالإيحاش منها بالإيناس، وأنكى شبا من إبرة العقرب في الشعور والإحساس، ذلك إلى الجم الكثير من آفات تلك الكتب التشاؤمية في المجتمع، ومساوئ آثارها في هيكل الإنسانية مما يصغر ويضؤل بجانبه ما قد حوت من الفوائد والمنافع، حتى ذهب فريق كبير من أدباء العالم ونقاده إلى اعتبار مؤلفيها الفحول الفطاحل من ضمن عوامل الفساد ومصادر الشر والبلاء على العالم، فقال لنا الفيلسوف الألماني الطائر الصيت «فردريك نيتشه»: «أغلقوا «بيرون» وافتحوا «جيتا»، وأصل هذه السوءات والآفات في الخالدات العبقريات من تآليف أولئك النوابغ هو - كما أسلفت - مرارة السجية وحموضة الطبع وحرافة المزاج، وما يتبع ذلك من جفوة الروح وقسوة القلب وغلظة الكبد.
وليس ثروت باشا بالجافي النفس، ولا القاسي القلب، ولا الغليظ الكبد، ولا هو بالحامض الطباع الحريف المزاج، ولا بالموحش الجناب، المظلم الناحية، الراكد النسمات، ولكنه مع متانة أخلاقه وصرامة عزمه، وأنه لا يجمد في الحق، ولا يتدفق في الباطل، تراه ذلك الرجل اللين الجانب، المأنوس الجناب، المشرق الناحية، هينا لينا، طلق الجبين، براق الأسارير.
بشر أبو مروان إن عاسرته
عسر وعند يساره ميسور
وكالسيل إن قاومته انقدت طوعه
صفحه نامشخص