لقد رأينا ثروت باشا في أحاديثه وخطبه يجمع إلى الخلابات اللفظية المحضة، والبراعات البيانية البحتة، مزايا أجل من ذلك وأشرف - أعني العناصر الروحية والقوى الوجدانية من إخلاص وغيرة وصدق إيمان وتضحية - وهذه هي التي تكسب الخطبة أو الحديث صفة الجزالة والفحولة ومزية الجلال والعظمة، وتطبعها بطابع المجد والخلود. فإذا خلت الخطبة من هذه الصفات العظيمة والميزات الجليلة، واقتصرت على الخلابات اللفظية والبراعات البيانية، كانت فائدتها وقتية وأثرها سريع الزوال، وكان قصارى فعلها أن تسترق الآذان بحلو اللفظ وعذب الكلام، وتلذ ملكة التصور والخيال فتكون بمثابة ملهاة ومسلاة ليس إلا. فهي وإن أثرت أشد الأثر في وقتها وساعتها فليست تعدو كونها خدعة وشعوذة لا يلبث أثرها أن يضمحل فيزول، فهي أشبه شيء بصوت الآلة الموسيقية تمر في الطرقات والشوارع فتحرك خيال المارة وتثير عواطفهم، وتتركهم وكأنهم شعراء لحظة من الوقت ريثما ترن في أسماعهم نغماتها، ولكنها لا تلبث أن يزول أثرها من النفوس متى تحولت إلى الحي المجاور؛ لذلك أرى أن اللسان الطلق الذليق إذا لم يكن من الحدة بحيث لو يوضع على الشعر لحلقه وعلى الصخر لفلقه، ولو لعق النجم لمحاه، أو القمر لطواه، لكان أقصى جهده أن يحدث نشوة لا تلبث أن تزول، وغاية ما يستحقه أن يدرج في عداد المسكرات والمخدرات كالأفيون والخمرة، ولكان أحسن علاج يتقى به تأثيره سدادات القطن تجعل في المسامع، أو قطع الشمع التي جاء في أساطير اليونان أن «يولوسيس» سد بها آذان نوتية سفينته حينما كانت تمر بهم على جزيرة الساحرات اتقاء ما خشيه عليهم من فتنة أصواتهن وسحر ألحانهن.
هذا النوع من البيان السطحي هو شيء خلاف ما قد امتاز به ثروت باشا من قوة البلاغة الحرة الصادقة، وإني أرى فرقا ما بين الصنفين كالذي بين رشاش الفوارة الصناعية الذي لا يكاد يتصاعد حتى يتهاوى، ولا تكاد تتلألأ على لبات الضحى قلائده حتى ترفض حباته وفرائده، وبين البحر الخضم في دوافق موجه ودوافع لجه، تجيش فيه زواخر عبابه، وتقصف في حجرتيه زماجر عجاجه وصخابه، ويكمن في أعماقه نفائس أعلاقه، ويستكن في ضميره روائع ودائعه وبدائع بضائعه. وكذلك شأن الخطيب السامي الدرجة في مراتب البلاغة، وهذه صفات من تسنم ذروة البيان، ونزل من الفصاحة في الغارب والسنام، وتلك لعمري مزية نادرة وغاية بعيدة المنال تتقطع من دونها أنفاس البراذين، ولا يدرك مداها إلا الكرام العتاق:
وابن اللبون إذا ما لز في قرن
لم يستطع صوت البزل القناعيس
وإنما نال ثروت باشا هذه الغاية، وبلغ هاتيك المرتبة، بفضل ما اجتمع له من خلال قلما اجتمعت إلا لواحد في جيل وفرد في أمة - وهذه هي العقل والدهاء والعزم والحزم وقوة الإرادة والغيرة والإخلاص والشغف بالحق والهيام بالحقيقة، يعزز هذه خلابة المنطق وحسن البيان ودماثة الطبع ورقة الشمائل - هذه الخلال إذا استكملت في رجل تكون فيه من مجموعها تلك القوة العجيبة النادرة المسماة «فتنة الجاذبية الروحية وسحر السيطرة الشخصية»، ومن كان هذا شأنه فذاك خليق أن يرجح بسائر أهل جيله، وخليق أيضا أن يتغلب على كل أمر وحادث، فإذا صادفته المعضلات والمشاكل صادفت فيه فكاك عقدها وحلال ألغازها، وإذا لاقته المحن والكوارث لاقت فيه فتاكها وفراسها، ويتلقى منه الرجال جلمود صدام يصكهم فيسحقهم، ومقذف رجام يرضهم فيمحقهم. مثل هذا البطل يكون كفؤا لكل حادثة وكارثة ولكل أزمة وشدة. فأين الرجل الاعتيادي - مثلي ومثلك - من ذلك البطل في ساعة الروع والخطر وقد حسرت الداهية الدهياء من نقابها، وكشرت المحنة النكراء عن نابها؟ قل لي ماذا تصنع إذا وجدت نفسك وسط زوبعة على كواهل أمواج كالجبال في بحر جموح الموج مجنون العباب، وحولك أناس قد طاش الذعر بألبابهم، وطار الرعب بقلوبهم؟ أكنت مطيقا أن تسترد عازب ذهنك، وتربط نافر جأشك، ثم تستلم مقاليد بيانك، وعنان لسانك فتصرفهما بحزم وحكمة في طمأنة أفئدة أولئك الجازعين الهالعين، وتسكين خاطرهم توسلا إلى النجاة من ذلك الخطر؟ وإذا رمى بك الحظ السيئ في أيدي لصوص أو جمهور ثائر أو أغوال من أكلة اللحم الآدمي فماذا تصنع؟ وكيف تلتمس المخرج والمنفذ؟ وإذا أوقعك القدر في يد فاتك من قطاع الطريق فهم أن يسلبك مالك وروحك فماذا أنت صانع؟ أتراك تعرف كيف تخرج من هذا المأزق الضنك بفضل قوة الذهن، وشدة العارضة، وذلاقة اللسان، وخلابة المنطق، مثلما كان يفعل رجل كمعاوية أو ابن العاص أو طاهر بن الحسين أو صلاح الدين، أو مثل الإسكندر أو يولوس قيصر أو القائد «مالبرة» أو البرنس دي كونديه أو محمد علي أو نابليون؟ (ليس من شأني أن أتصدى لإلحاق ثروت باشا بهؤلاء الأبطال، فإن ذلك موكول إلى حكم التاريخ في قادم الأجيال، وإن كان لا يسعني إلا الاعتراف والإقرار بأني آنس في شخصية الوزير الجليل عنصرا من تلك الفحولة وجذوة من لهيب هاتيك البطولة).
لا شك أنه متى طلع اللص قاطع الطريق على أحد ممن سمينا من أولئك الأبطال، أحس في الحال أنه قد لقي من هو أشد منه بأسا وصولة، وقال في نفسه: «إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.» ولا عجب، فما أعظم الفرق والتفاوت بين الرجل والرجل في قوة الوجه! ألست ترى الرجل يتغلب على الآخر بتفوق الأول على الثاني في قوة العين وحدة اللحظ فيبهره بذلك حتى يحيره ويربكه؟ أو ما سمعت بالرجل كيف يستطيع - برباطة الجأش وجرأة الجنان وبالثقة بالنفس واستشعار سيما العزة والعظمة - أن يخضع الرجال ذوي المنزلة والمكانة والصولة والنفوذ والجاه فيقودهم ويسودهم، ويرأس ما شاء من الشيع والأحزاب فربما عزل الملوك وألغى الدساتير وقلب الدول والممالك؟ وإني لا أشك في أن مثل نابليون بونابرت أينما وضعته، وفي أيما زمان أو مكان ألقيته، فلا بد أن يسود ويقود وينفذ كل ما شاء وأراد، وقد كان يولوس قيصر في أيام صباه وقع في أسر جماعة من القرصان، فماذا كان منه؟ لقد ألقى بنفسه في سفينتهم، ثم ما لبث أن أكد بينه وبينهم أمتن روابط الصحبة والألفة، وكان يحدثهم القصص والنوادر تارة ويلقي عليهم الخطب تارة أخرى، فإذا رآهم لا يهللون إعجابا ولا يصفقون طربا هددهم بالإعدام شنقا (وقد نفذ فيهم هذا الوعيد فيما بعد حينما صار قيصرا) ولم تك إلا مدة قصيرة حتى أصبح زعيمهم وعميدهم.
مثل هذا الرجل معصوم في جميع أوقاته وحالاته من آفة الاضطراب والارتباك والدهش والحيرة، فهو لا تنفد من يديه أوراق اللعب الفائزة، فإذا ألقى الورقة فكسب «الطابق» لم تستطع أن تقول هذه آخر ورقاته؛ إذ لا يزال لديه عتادا من السلاح وذخيرة من القوة. مثل هذا الرجل يستطيع - كما قلنا - أن يقلب كيان الدولة، ثم تصبح أحاديثه ضربا من المعجزات والخوارق، وأجل معجزاتها أنها تؤثر في سامعيها فتنة وسحرا، حتى يولونه على مجرد السماع به أعظم الثقة وأكملها، وبذلك يتأتى له أن يغير وجه العالم، وحينذاك يسعى في خدمته، ويقوم بترديد صدى مساعيه الشعر والنثر والتاريخ، وتنشأ المذاهب الفلسفية الجديدة؛ لتعليل سبب وجوده وحكمة حياته وأعماله. إن ميزة هذا الرجل هي تمام مقدرته على امتلاك عواطفه ووجداناته، ولكن سر تغلبه وسيطرته أدق وأعمق من هذا؛ ذلك هو سريان قوة الطبيعة بلا عائق وجريانها وانطلاقها بلا عقبة أو حائل من ذهنه وإرادته إلى يديه، فالرجال والنساء لعبه وآلاته، وحيثما وجدوا فثمة له مصدر حيل إلى مراميه وذرائع إلى أغراضه، وما أحسن قول لوثر حيث يقول: «إنما الرجل من أجاد الكلام.» فأمثال هذا الرجل كانت ولايات اليونان تستهدي وتستورد من ولاية «إسبرطة» (أوفر الولايات نصيبا من الفحول) حينما كانت تحتاج إلى قائد.
وإذا ضربنا صفحا عن فحول الرجال من الملوك والقواد وأهل الحرب والقتال؛ ألفينا في ساحات السلام ومناديح الأمن والسكينة فحولا أيضا، لا يقلون عن أولئك جزالة وقوة وسلطانا على الأنفس، وسيطرة على العقول. فهؤلاء وإن لم يعتلوا مسرح الحرب والسياسة، أو يتصدوا لزعامة أو قيادة، وكانت صناعاتهم عادية، ومناهج عيشهم سلمية مدنية، تراهم مع ذلك يؤثرون أينما حلوا تأثير الشعاع المنعش ، أو الزمهرير المرعش، وإذا نطقوا أصيخ لهم وإن لم يكن نطقهم إلا همسا ونبسا، وإذا خطوا قصدوا وسددوا، وإذا فعلوا أحسنوا وأجادوا، ثم يكون عملهم قدوة تنتحى ومثالا يحتذى، وهؤلاء الفحول يلقون في أخفض منازل المجتمع مثلما يلقون في أرفعها وأسماها.
فأساس الملكة الخطابية في جميع الحالات - وعلى اختلاف شئون أربابها وأعمالهم وحرفهم ومراكزهم - هو قوة الشخصية وشرف النفس وسمو الهمة؛ ولذلك ترى الأمم والشعوب إذا احتاجت إلى من يمثلها أمام الخصوم، ويمثل أمانيها وأغراضها، ويطالب برد حقوقها، عمدت إلى من كان من بين أفرادها أقواهم شخصية، وأعظمهم روحا، وأجزلهم حظا من صفات الرجولة وخلال الفحولة - كالحزم والرزانة والحلم والأرب والحصافة والجرأة والشجاعة مع سمو المركز الاجتماعي - جاعلة اهتمامها بهذه المزايا الأخلاقية النبيلة، والسجايا الرجولية الجليلة، أشد من اهتمامها بالكفاءات الفنية - كالخبرة القضائية مثلا أو غزارة العلم بالقانون الدولي والتجاري أو التفقه في العلوم الاقتصادية والسياسية - وإلى النوع الأول من الصفات والمزايا - أعني صفات الرجولة والفحولة - كانت ترمي الأمة المصرية - أعني ذوي الرأي والمكانة وأولي الفضل والكفاءة والوزن والجاه منها - حينما عمدت إلى اختيار الرئيس الجليل ثروت باشا؛ ليمثلها لدى الخصوم، ويكون النائب والوكيل عنها في المطالبة بحقوقها وتحقيق أمانيها، ولقد صدق ظنها وصحت فراستها، وأصبحت تحمد مذهبها في اختيار ذلك البطل حينما حقق شطر أمانيها، وبات ساهر الجفن، قلق الضلوع، متوقد الأحشاء في تحقيق ما بقي من آمالها. فطوبى للأمة المصرية ومرحى! لقد علمت وعلم العالم أجمع أنها حينما اختارت ثروت باشا للدفاع عن قضيتها والمطالبة بحقوقها قد اختارت الرجل الذي إذا نادى بالخصوم أسمع، وإذا ناظر أقنع، وإذا خاصم أفحم، وإذا ناوأ أرغم:
من يساجلني يساجل ماجدا
صفحه نامشخص