وإني كلما تأملت ما قد أوتي الرئيس الجليل من قوة الخطابة، وسحر البيان، وخلابة التأثير، تذكرت ما قاله توماس كارليل في وصف ذلك العبقري النابغة نادرة زمانه، ومعجزة أوانه، الشاعر الأعظم البريطاني «روبرت بارنز»، ورأيت أن الناقد المتصدي لوصف ما يمتاز به الرئيس الجليل من الملكات البيانية والخطابية الرائعة لن يستطيع أن يبلغ غرضه بأحسن من ترديده في الرئيس ما قاله سالفا توماس كارليل في بطل أمته روبرت بارنز.
قال ذلك الكاتب الكبير: «كان بارنز آية في خلابة المنطق وسحر البيان، كان حديثه العادي أبدع من شعره وأفتن من حديث كل من رأيت وسمعت به من سائر الناس.»
شرك العقول ونهزة ما مثلها
للمطمئن وعقله المستوفز
إن طال لم يملل وفي إيجازه
يهوى المحدث أنه لم يوجز
كان حديثه كالسلم الموسيقي قد استوعب درجات النغم من أخفت جرس التحية، وأرق كلم الملاطفة، إلى أرفع صيحة الغضب وأشد صرخة الوجد، ففيه ضحكة الطرب الجذلان، وزفرة الصب الولهان، وإيجاز المجتزئ بإشارته، وإطناب وليم بيت في خطابته.
وقد روت عنه السيدات والأميرات ربات الأدب البارع، والفضل الرائع، أنه كان يزدهيهن بفتنة حديثه، ويستحفهن بخلابة بيانه، حتى يكدن يثبن في الهواء ويطرن في الجو. فهذا وايم الله عجيب. وأعجب منه ما رواه النقادة الجهبذ المستر لوكهارت من أن خدام الفنادق كانوا إذا رقدوا في مضاجعهم للرقاد ورنقت سنة النعاس في أجفانهم، ثم سمعوا صوت الشاعر بارنز يتكلم، وثبوا من مراقدهم فالتفوا به وكلهم إقبال عليه وإصغاء لحديثه، وما لي أعجب من ذلك؟ أليسوا رجالا ينصتون إلى رجل؟ وأعظم ما يؤثر عن بارنز ما رواه لي شيخ مسن - كان من أخص أصدقائه - من أن بارنز ما فتح فاه قط إلا ألقى منه حكمة، قال ذلك الشيخ: «لقد كان بارنز كثير الصمت فإذا تكلم جلى من غوامض الأمر وأنار شبهاته، ولا أدري لماذا يتصدى امرؤ للكلام إذا لم يكن قادرا على هذا.»
إذا قلنا إن ثروت باشا قد حذق فن الخطابة فإنما نعني بذلك أنه قد استكمل أدوات هذا الفن وملكاته - أعني صفاء البصيرة وقوة الذاكرة وحسن البيان ومتانة الحجة والبرهان وحدة الخيال - أي القدرة على إبراز أفكاره في صور طبيعية ناصعة - ويضاف إلى ذلك الإرادة النافذة القوية التي إذا تجملت بالثبات والنزاهة كانت جديرة أن تسمى «الخلق العظيم أو العظمة الأخلاقية»، وتلك هي أسمى مراتب الرجولة.
لا شك في أن السر في نجاح ثروت باشا كمناظر وخطيب - يرجع إلى قوة أعظم من البراعات اللفظية والمحاسن الظاهرية كدماثة الطبع وحلاوة الشيم ورقة الشمائل وعذوبة اللفظ والصوت - يرجع إلى قوة خلقية كبرى وملكة وجدانية عظمى - أعني الإخلاص والإيمان ورسوخ العقيدة - بما يدافع عنه ويحاول إثباته من النظريات والمسائل؛ فهو يقبض على ناصية نظريته، ويعتنقها أشد اعتناق وأحره، والحرارة - نتيجة الإخلاص والإيمان - هي العامل الأكبر في قوة الخطابة ونجاحها. فإذا أردت أن تفلح في خطابتك فكن كالرئيس الجليل، غير متعرض إلا لما أنت به عالم وموقن وخبير، وكفيل أن تحتمل تبعته ومسئوليته، وتقدم عنه أوفى حساب وأدقه. فإنما الخطابة والبلاغة أن تعمد إلى الحقيقة الخطيرة الجائلة في وجدانك، فتترجمها إلى أفهام سامعيك بأقرب لغة، وأعلقها بأذهانهم، وأوقعها في نفوسهم، ولا مراء في أن هذه القدرة العظيمة - هذه الكيمياء العجيبة التي تستطيع أن تحول الحقائق المنقوشة بلغة الخالق على صحف الضمائر المرقومة بالقلم العلوي في سجلات السرائر إلى حقائق مؤداة بلغة سامعيك من الجماعات والأفراد - لهي أبدع سلاحا طبع في مسبك الصانع الأجل والصيقل الأعظم.
صفحه نامشخص