وهل أنساكم حب الوطنية أغراضكم الذاتية ومآربكم الشخصية، وأذهلكم عن طلب الجاه والمنصب والرياسة، وألهاكم عن الولوع بمظاهر الأبهة والفخامة والزعامة؟ وهل صرفكم الشغف بالوطنية عن الشغف بهتاف الناس لكم في كل شبر من الأرض والمناداة بإحيائكم وبتخليد ذواتكم السامية العلية في هذه الدنيا الفانية الدنية، وبإسقاط أضدادكم وبموتهم وتكفينهم ودفنهم؟
وإذا كان ذلك كذلك؛ فهل من حق الوطنية عليكم أن تخذلوها في أدق ساعاتها، وأشد أزماتها بمحاولتكم صدع الشمل وهدم البناء، وتمزيق الوحدة، وتفريق الكلمة بطمس معالم الحق الأبلج، وترويج الباطل اللجلج، وإقعاد الهمم والعزائم عن مواصلة السعي إلى الغاية المقصودة، وصرف الأمة عن الأخذ بالعروة الوثقى، وانتهاج الخطة المثلى، والانتفاع بما ساقه إليها الحظ من الأرباح والمغانم، واستثمار ما تنازل عنه الخصم لمصلحتها من الفوائد والمزايا، وعن مضاعفة حولها وقوتها باستخدام ذلك السلاح القوي الذي استفادته أخيرا بفضل مساعي الوزير الكبير ثروت باشا - سلاح الاستقلال الشرعي التام - الذي أصبحنا اليوم نجتني باكورة ثماره؟ أمن حق الوطنية عليكم أن تصنعوا هذه الهنات، وما هي إلا سهام تصمون بها كبد القضية المقدسة، ومدى تمزقون بها أديمها، ومعاول تهدمون بها كيانها؟ أم هل نسيتم - وليس العهد ببعيد - يوم خذلتموها وهي ملقاة في قسطاس المفاوضات الرسمية؛ إذ كانت تبتهل إليكم أن تلتفوا حولها، وتشدوا أزرها؛ ليكون من جماعتكم محتشدة، ومن كتلتكم مندمجة خير قوة ترجح بكفتها في الميزان فتشيل كفة الخصوم، وتنال هي الظفر والنصر بهممكم وعلى أيديكم، فهل أعنتموها ونصرتموها، وأجبتم دعاءها، ولبيتم نداءها؟
أفبعد هذا كله تدعون أنكم أنتم وحدكم الوطنيون، ومن سواكم غدرة منافقون، وأن الوطنية قد خصت بكم، وحبست عليكم، ووقفت حيث أنتم فما لها عنكم متقدم ولا متأخر؟
هذا صنف جديد من الوطنية، ونوع غريب - لا عهد للناس به قبل ظهوره منكم - قد سبقتم إليه العالم المتمدين، وامتزتم به على أهل البدو والحضر، فلكم وحدكم فخر ابتداعه وامتياز اختراعه، ولكم أن تتخذوا له «ماركة مسجلة» تحتكرون بها مزية الانتفاع بأرباحه واستثمار فوائده، وتمنعونه بها من أن يكون لغيركم من مخلوقات الله حلا مباحا يستمتعون به كما يشاءون، ولبئس ما يستمتعون! وبئس ما يستثمرون! فاحتكروه وحدكم واستأثروا به، وامنعوا منه خلق الله فلن تستطيعوا أن تحسنوا إلى الناس أكثر من إحسانكم عليهم بمنع مثل هذه «الوطنية السامة» من السريان في كيانهم الصحيح المعافى، ولا أرى كفارة لجريمة اختراع مثل هذا الصنف من الوطنية أفضل من قيام مخترعه بتسجيله واحتكار امتيازه لنفسه دون غيره، وما يستدعيه ذلك الاحتكار من صيانة خلق الله الآمنين وعباده الصالحين من شروره وآفاته.
الوطنية المحضة الصريحة المخلصة الصادقة لا توحي بأمثال هذه الفعال، ولا تغري بانتهاج تلك المسالك، إنها أنبل مقصدا، وأكرم نزعة من أن تأمر بغرس بذور الأحقاد والضغائن، وتأريث نار الشر والعداوة بين أبناء الوطن الواحد، وتفريق الكلمة، وتبديد الصفوف، وفرط العقد وفصم العرى. هي قد تأمر بالمعارضة ولكن بالمعارضة الشريفة النزيهة، الواقعة في حدود الرفق واللين والأدب والحكمة والعقل والمنطق، المبنية على أفضل أساس من حسن النية وشرف المبدأ، ونصرة العدل، والتنقيب عن مواطن الصدق ومكامن الحق، ولزوم محجة الحجة الناهضة، والتمسك بأسباب البراهين الدامغة، والتجرد عن شوائب الأغراض، والتنزه عن عوامل الأهواء، والتحلي بمناقب الكرم والعفة والحياء، ودماثة الطبع، ورقة الجانب، ولين العريكة، وسجاحة الخلق - أعني كل ما ينحصر في مدلول تلك اللفظة المفردة الإنكليزية التي اصطلح على تعريبها بلفظة «الرجل المهذب». فالمعارضة؛ تلك القوة الهائلة التي تعد بحق من أقوى عوامل تنظيم الهيئات الاجتماعية والسياسية، وأفعل الوسائل المؤدية إلى حسن التوازن في كيان الأمم والشعوب، يجب أن يكون القائمون بها من أفاضل القوم؛ أعني المهذبين الذين حاولنا وصف محامدهم ومناقبهم، لا أن تكون سلاحا في أيدي الطائشين الخرق المتهورين، ولا المتفاخرين بما آتاهم الله من قوة السواعد وجهارة الأصوات وصواعق الصيحات، المنتشين من خمرة الزهو والتيه والإدلال بشدة البأس وقوة الفتك ونخوة الفروسية والحماسة، الذين يهزون أقلامهم كما يهز بعض الرجال النبابيت والشوم - أو بالاختصار - لا يصح أن يسلم سلاح المعارضة الشريف إلى «فتوات» السياسة.
لا يصح أن تستخدم المعارضة في تضليل السذج البسطاء من الجماهير، والتغرير بهم بترويج الأباطيل والأكاذيب، ونشر إشاعات السوء والأراجيف، وتسميم الأذهان بأكاذيب التهم والظنون مما لا يساعد مثقال ذرة على خدمة القضية، ولا يتقدم بها شبرا واحدا نحو النجاح، بل يعمل - بالعكس - على تعريضنا للخطر الجسيم. لا يصح أن يتولى المعارضة من لا يهمهم منها إلا اتخاذها ذريعة لخدمة الأغراض والأهواء، وهم يعرفون الحقائق، ولكنهم يتعامون عنها تعامي البصير في الليلة القمراء، ولا أن يتولاها القصار النظر الذين لا يبصرون الحقيقة لما يحول دونها من سحب الأكاذيب والأضاليل، ولا أن يتولاها القوم البطاشون بأسنة الأقلام، وحراب المطاعن وهجر الكلام، الذين لا يلذهم ولا يقر عينهم إلا أن يروا ميدان المعارضة حومة وغى، وساحة قتال يضرجونها بدماء المناظرين والمناقشين، تسيل على ظبات أقلامهم وأسلات يراعاتهم من جراح الكرامات الدامية ومن كلوم الأعراض المثلومة. فهذا وحده الذي يسرهم ويشفيهم، وبدونه لا يرضون ولا يقنعون. أما طريق المنطق والقياس والمعقول فليس مما يألفونه أو يميلون كثيرا إلى سلوكه، وليس للحجة عندهم راجح وزن أو كبير قيمة، وبدل ما هو أساسي ضروري للمناقشة الحرة والمعارضة النزيهة - من صفاء جو الهدوء والحلم والرزانة الضروري لوضوح نور الصدق وسطوع نجم الحقيقة - تراهم يكدرون الجو بما لا يزالون يثيرون فيه من غبار الشغب والشر، ويعقدون في أرجائه من دخان الإساءات والاعتداءات بأليم المقال ومضاضه، وهذه الخلال - لعمر الحق - ليست مما يحبب المناقشة إلى أربابها وذوي البراعة فيها والافتنان في أساليبها، ولا مما يجعل ميدان المناظرة ذلك الندي المأنوس الذي يشتاقه ويهرع إليه أولو الفطن والألباب، بل هذه الخلال السيئة أجدر أن تبغض المناظرة والمناقشة إلى من يرجون لحل مشكلاتها وإثارة شبهاتها من ذوي الفضل والحجى؛ إذ يرونها إلى الصراع والملاكمة أقرب منها إلى المحاجة، وبالجلاد والطعان أشكل منها بالمباحثة، ويرون مجالها أحق أن يسمى مأسدة ومسبعة تجول فيه الضاريات بالبراثن، وتصول بالأنياب والمخالب فليس يجرأ على ولوج بابها، ودخول غابها إلا من تحصن في الجنن الواقية، وتسربل الدروع الضافية، وليس يخفى ما يكون لإبعاد أهل الفضل والنهى عن مجال المناقشة من الخطر الجسيم على سلامة الحقائق والمبادئ بمنع أشعة القرائح الوقادة من النفاذ إليها، والإشراق عليها، وإبرازها للعيان في ضياء الحجج المنيرة والبراهين الساطعة؛ وذلك من شر ما يبتلى به أمة ناهضة تقتحم أوعر سبيل إلى غايتها المأمولة من الحرية والاستقلال في ظروف عصيبة وأزمات شديدة، وجو مغيم مظلم تظل فيه أحوج ما تكون إلى الاستنارة بشهب الأفكار ومصابيح الفطن من عقول الصفوة المختارة من نخبة أبنائها المخلصين النوابغ.
نحن لا نقصد بهذا الكلام إلى الطعن في وطنية مصري كائنا من كان؛ لأنا ننظر إلى الوطنية نظرة أوسع وأعمق مما اعتاد أن يلحظها بها أولئك الذين يعدونها ضربا من الحرف وصنفا من الصناعات والمهن يحترفونها، فيقال فلان وطني كما يقال فلان مهندس أو طبيب، أو أولئك الذين يعدونها حلية وزينة يتملح بها المتبرج المتأنق فيقال فلان قد برع في الوطنية وحذقها كما يقال قد تفوق فلان في البلياردو أو الرقص أو الناي، ولكنا نرى الوطنية شيئا أعرق من كل ذلك في كيان الإنسان وتركيبه، وأشد امتزاجا بنفسه، وأرسخ جذورا في طينته، وأرسب أصولا، بل لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إنها هي بالفعل مادة حياته وعنصر كيانه، فهي ليست حرفة إلا إذا كان التنفس ذاته حرفة، وليست حلية إلا إذا كان الشعور والوجدان ذاته حلية، ولا هي مما يفتخر به ويباهي ويتيه به صاحبه عجبا وإدلالا إلا إذا صح أن يفتخر إنسان على آخر ويتيه ويزهى لغير ما سبب سوى أنه حي يرزق، وموجود تحت الشمس يستطيع أن يتحرك ويهضم، والواقع أن الإنسان وطني بالطبع مثلما هو مدني بالطبع وأناني بالطبع وخرافي بالطبع ... إلى غير ذلك من الغرائز والفطر المكون من مجموعها ذلك المخلوق المدهش المسمى إنسانا. بل إني لأذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إن الوطنية - أعني فرط تشبث الإنسان وتعلقه بالأرض التي منها نشأ ونجم - ليست مقصورة على النوع البشري، بل مشتركة مشاعة بينه وبين كافة ضروب الحيوان من النملة إلى الفيل، ومن الإسفنجة إلى النسر، كل لا يقر ولا يطمئن إلا في وطنه وبيئته، بل إن النبات ذاته وطني إذا نقلته إلى غير وطنه وغرسته في غير مألفه ذوى فذبل فمات.
أكثر من ذلك أن الوطنية لكونها غريزة وجبلة هي كسائر الغرائز تفعل فعلها وتجري شوطها مستقلة عن العقل، لا نقول إن استقلالها عن العقل فرض لازم وشيء دائم فإنها قد تتفق معه أحيانا وتسترشد بوحيه، ولكن ذلك شيء عرضي، وهو من محاسن الصدف، وحينذاك تكون وطنية راشدة مبصرة، ولكن ذلك ليس من وظيفتها ولا من طبعها بصفتها غريزة كسائر الغرائز التي لا بد أن تنهج منهاجها وتحدث حدثها بقانون نافذ أزلي غير خاضع لسلطان العقل ولكن لسلطانه هو. فلا عجب أن ترى الوطنية مندفعة في مجراها في غير صحبة العقل، بل لقد تسلك الوطنية مسلكها في غير صحبة الشعور فيأتي الرجل الفعلة الوطنية من حيث لا يشعر أنه صنع شيئا البتة، ولكن من حسن عناية الله وتوفيقه أن يلهم الوطنية الانضمام إلى العقل والانضواء تحت لوائه؛ لأن العقل وحده هو المبصر الثاقب النظر وسط ظلمات الكون، والدليل المهتدى بين مضاله ومجاهله، وكل شيء سار في صحبه العقل فقد ضمنت له السلامة وقدر له النجاح، وكل ما لم يكن كذلك فقد تعرض للمتالف واستهدف للمهالك.
على أن العقل حينما يصحب الغريزة المسماة الوطنية لا مشاحة في أنه يكسر من حدتها، ويفل من سورتها لما يتحتم عليه من مراقبتها وتدبيرها بالكبح من جماحها، وصدها في الأحايين الكثيرة وقدعها وقمع طغيانها، وتوقيفها عند حد الأمان وفي دائرة السلامة فتصبح بلا شك - من حيث مبلغ قوتها وشدتها - أضعف بكثير من الوطنية المستقلة عن العقل الراكبة رأسها الهائمة على وجهها، وهنا يتهمها الناس بالفتور والتراخي؛ بل ربما غالوا فاتهموها بالمروق والخيانة، ومن ثم كانت الوطنية المستبدة العمياء في نظر الجماهير أغلى قيمة وأعظم قدرا وأوجب للإجلال والتقديس من الوطنية المتبصرة السارية في ضياء العقل، ومن ثم نشأت نظرية القائلين بأن الوطنية أعظم ما تكون وأقوى وأشد إخلاصا وحرارة في الجماهير والمجاميع، وأنها تتناقص قوة وحمية ولهيبا كلما ازداد نصيب صاحبها من العلم والفلسفة حتى أصبح الكثير من نوابغ العلماء والفلاسفة - وفي مقدمتهم «جيتا» أعظم فحول الألمان - يتهمون في وطنيتهم، والحقيقة خلاف ذلك فإن الوطنية في كلا الفريقين جوهر لا يقبل التجزئة والتقسيم، ولا النقص والزيادة، وإنما يختلف مظهرا في الفئتين تبعا لشدة اندفاعه وطغيانه بلا رقيب ولا مدبر في الواحدة، أو انطلاقه في زمام العقل وعنان الحكمة، ومسراه في ضياء الرأي والبصيرة في الثانية.
وبعد كل هذا الكلام أرجو أن أكون أقنعت من عساه يكون قد أساء فهم مرامي؛ فظن أني طعنت في وطنية فرد ما من أفراد شعبنا الكريم بأني ما قصدت البتة إلى أدنى شيء من ذلك، بل الذي أقوله هو عكس ذلك - كما حاولت إثباته بالبراهين الآنفة - من أن الوطنية تظهر في فئة المعارضين على أشد ما بدت فيه الوطنية منذ خلق العالم من أسطع الصور وأعنف المظاهر، فإن كان فيها علة فإنما هي الإفراط والطغيان لا الفتور والضعف، وإن كان بها آفة فهاتيك هي العنف والبطش لا اللين والهوادة، فإن كنت آخذ عليها شيئا فذلك هو الزيادة لا النقصان.
صفحه نامشخص