ب كسل المهند المغمود
وكذلك كل رجل عظيم لا تكون فيه الوطنية مجرد عادة يعتادها، أو خصلة يتحلى بها، أو أداة يتذرع بها إلى شيء من مقاصده وأغراضه، بل تكون فيه غريزة غلابة، وطبيعة مسيطرة على جميع مشاعره ومداركه ونزعاته وعواطفه وشهواته، تكون مزاج دمه وأساس كيانه، والجوهر الذي صيغت منه نفسه، والعنصر الذي صورت منه روحه.
قلنا: إن بريطانيا لما أفاقت من سكرتها بالنسبة للمسألة المصرية، ولما قشعت يد القدر عن بصرها ما كان ران عليه من غشاوة الغفلة والغرور، وعن قلبها ما كان قد غشيه من حجب القسوة والجبروت فأصاخت إلى صوت مصر المتصاعد إلى عرش الله، وأصغت إلى نداء مصر المالئ ما بين الأرض والسماء، وقد أدركت أن مصر لا تقل عن نظائرها من الشعوب الأوروبية شعورا بعزتها وكرامتها، وعرفانا بقدرها وقيمتها، وإدلالا بسالف مجدها وعظمتها، وأنها لا تنحط في درج المدنية والحضارة عن مقام تلك الأمم، ولا تهبط في سلم الرقي الأدبي والاجتماعي عن منزلة تلك الشعوب. لما أدركت بريطانيا كل هذا، وجبهتها الحقيقة صلبة خشنة كالصخر الصماء، أرادت استرضاء الأمة المصرية، وحاولت بلوغ ذلك بتسوية قضيتها المرة بعد المرة بوسائل شتى منها «لجنة ملنر» - التي ذكرنا ما كان من فشلها بفضل إجماع المصريين على مقاطعتها بأقصى الشدة، وبتنفيذهم هذه النية بحد بجد وعزيمة وصرامة كانت ولا تزال موضع إعجاب العالم بأسره - وكان من تلك الوسائل أيضا دعوة بريطانيا الأمة المصرية إلى مفاوضتها: أولا: على لسان الوفد المصري (بصفة غير رسمية)، وثانيا: على لسان الوفد الرسمي (بصفة رسمية طبعا).
ليس غرضنا ههنا أن نأتي على تاريخ تينك المفاوضتين، ولا أن ندخل في تفاصيلهما - بل لم نذكرهما هنا بقصد تناولهما بالبحث والنقد - وإنما ألجأنا إلى التنويه بهما محاولتنا إقناع الفريق المتشائم المتطير المبالغ في إساءة الظن ببريطانيا أن إنكلترا اليوم - التي تدعو بنفسها مصر، وتمد يدها إليها للدخول معها في المفاوضة لاسترضائها وتسوية قضيتها - هي خلاف إنكلترا الأمس العاتية المتغطرسة التي كانت لا تسمع النداء ولا تصيخ لدعاء.
فلهذا الفريق المتشائم المتطير، الشديد الارتياب في صحة مواعيد بريطانيا وفي حسن نيتها، لمصر على أن لا يزال مدى الدهر يعتقد فيها مطل الوعود وختل العهود والسخرية من مطالبنا الوطنية وأمانينا القومية. نقول إن بريطانيا اليوم بالنسبة لقضيتنا غيرها بالأمس، وأنها تقف منا الساعة موقفا لم تقفه من قبل، فلقد أيقظناها من رقادها، ونبهناها إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن مصر أيضا أمة كغيرها من الأمم الغربية، وأنها تعرف مثلها معاني الحرية والاستقلال، وتصبو إلى أخذ مكانها بين دول العالم المجيدة وممالكه العظيمة، وتتوق إلى الصعود في مراقي المدنية السامية لاعتلاء ذروة العز، وتسنم غارب المجد والسؤدد، وأنها كسائر الأمم الغربية الناهضة لها قلب يجيش بأذكى جمرات الحمية، وأحمى مراجل الوطنية، ولها جانب صعب أبي ينفر بها عن مواطن الخسف والضيم، وأنف حمي يأبى لها النزول على العسف والرغم. أجل، لقد فتحنا عين بريطانيا بعد طول غموض إلى أن مصر كمثيلاتها من أمم الغرب لا تصبر على اغتصاب حقوقها، واستلاب تراث أسلافها، وأنها تقدر قيمة الحرية حق قدرها، وتعرف أنها الجوهرة الثمينة، والدرة اليتيمة التي من أجلها تخوض غمرات الخطوب، وتغامس حومات المحن والكروب: فإما تهلك وتفنى في خضم الجهاد، وإما تظفر بتلك الدرة اليتيمة فتردها إلى موضعها من إكليل مجد البلاد وتعيدها إلى نصابها من تاج حسبها المجيد وعزها التليد. لقد علمنا بريطانيا أنه ليس للغرب أن يفخر على الشرق زاعما أنه أوفر نصيبا منه في مزايا النهوض والتقدم، وأنه أذكى منه قلبا، وأنبل روحا، وأصفى جوهرا وأكرم عنصرا. لقد علمنا بريطانيا أنه لا شرق ثمة ولا غرب إذا هبت الأمة من سباتها تطالب بحقها المهضوم، وتحاول استرداد الحرية والاستقلال، لا شرق ولا غرب إذا زخر عباب الحياة في فؤاد مثل هذه الأمة وثار موجه، وجاش تياره في أعماق روحها المضطربة، ثم دفعتها رياح الوطنية العاتية إلى الموت أو الحياة. أجل، في مثل هذه الساعة الخطيرة تمحى من بين صفات الإنسان الطبيعية تلك الصفة الاصطلاحية الصناعية - أعني «شرقيا» و«غربيا» - وتسقط عن هيكل الإنسان المقدس تلك «الماركة» المعلقة عليه تعليقا، غير المتأصلة في جوهر الروح النقي الأصلي المستمد هو وسائر أرواح البشر من مادة الروح الكلي وينبوعه الأبدي.
لقد فتحنا عين بريطانيا إلى هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن الأمة المصرية لم تكن فيما مضى من الزمن ميتة ولا جامدة ولا خامدة ولا نائمة، بل حية تذكو في ضميرها جمرة الحياة والشعور، وإن حجبت شعاعها حجب الفتور والتبلد منا، وحجب الغفلة والغرور منهم. لقد علمنا بريطانيا هذه الحكمة البليغة، وهي أنه لا شيء في الحياة ميت أو هامد أو راكد. لقد ذكرناهم بما كان أوحى إليهم حكيمهم العظيم توماس كارليل في القرن السالف حيث قال في كتابه «الثورة الفرنسية»:
لا شيء في الكون ميت، وما نخاله ونسميه ميتا إنما هو في الحقيقة في حالة استحالة وتغير، تعتمل قواه الكامنة وتفتعل على نظام معكوس. فالورقة الذابلة رهينة البلى والعفن لا تزال تكمن فيها القوة، وإلا فكيف كان يتأتى لها أن تتعفن؟ ألا إنما الكون بحذافيره ليس سوى مجموعة غير محدودة من القوى المختلطة الممتزجة - تعد بالآلاف والملايين - من الجاذبية الجمادية إلى الفكر والشعور والإرادة - حرية الذهن المطلقة تكتنفها وتحدق بها ضرورات الطبيعة المحتمة - وفي خليط هذه القوى الهائل العظيم لا شيء يهمد أو ينام لحظة، بل كلها لا تزال أبد الآبدين يقظة فعالة.
فأما ذلك الشيء الجامد الهامد المنعزل عن دوامة هذه الحركة الأبدية فذلك ما لن تجده، ولن تراه في أي أنحاء هذا الوجود البتة، مهما فتشت ونقبت في سلسلة الكائنات من الجبل الصوان المستمر في حركة البلى البطيء منذ بدء الخليقة - إلى السحابة السارية، إلى الإنسان الحي، إلى أقل فعلة من أفعاله وأدنى كلمة من أقواله. أجل، إن الكلمة إذا خرجت من فم القائل مضت كالسهم النافذ، لا ماحي لأثرها، وأشد منها وأقوى الفعلة الواقعة. أو لم يتغن لنا الشاعر «بندار» قديما بحكمته المأثورة: «إن الآلهة أنفسها لتعجز أن تمحو أثر الفعلة المفعولة.» لقد صدق بندار، فإن هذه متى فعلت بقيت على الأبد الآبد مفعولة؛ أي دائمة المفعول والأثر - بقيت مسترسلة في فضاء الزمن اللانهائي - وسواء لبثت ظاهرة لنا بادية، أو مستترة خافية، فستبقى فعالة تزكو أبدا وتنمو عنصرا جديدا لا يفنى ولا ينعدم في غضون مزيج الكائنات اللانهائي. بل ماذا تحسب هذا المزيج اللانهائي ذاته الذي نسميه «الكون»؟ أتراه سوى فعلة أو مجموعة من الأفعال أو القوى؟ أتراه سوى مجموعة حية (يعجز الحساب عن جمعها وحصرها في جداوله وإن بدت لعينك مكتوبة على صفحة الزمن) مجموعة حية لهذه الثلاثة الآتية: كل ما فعل، وكل ما يفعل، وكل ما سوف يفعل.
فاعلم - علمت الخير - أن ذلك الكون الذي تراه إنما هو فعلة، هو النتيجة والمظهر لقوة مبذولة، هو البحر العديم السواحل الذي من ينابيعه تنفجر القوة، والذي في عباب حومته تجيش وتموج القوة زخارة منسقة منتظمة، فسيحة كاللانهاية، عميقة كاللابداية، جميلة مخوفة حسناء روعاء، غير مدركة ولا مفهومة. فهذا اللج الزاخر الذي لم يبرح يجيش ويرغي ويزبد من وراء الأفلاك ومن قبل بداية الزمن، ولم يزل يموج من حولك - بل أنت نفسك جزء منه في هذه النقطة من الفضاء، وفي هذه الدقيقة من الزمن - هذا هو ما يسميه الإنسان «الكون» و«الوجود».
وكذلك الحياة البشرية وكل ما فيها لا يزال في حركة دائمة، وفي فعل وتفاعل متطورا من حال إلى حال، ومن شكل إلى شكل بتأثير نواميس نافذة محتومة نحو غاية محدودة ونتيجة لازمة، ونحن بني البشر، ألا ترى كيف نظل منغمسين مغمورين في أعماق سريرة الزمن وفي ظلمات لغزه العويص؟ ولا جرم، فنحن أبناء الزمن وسلالته - ومن الزمن حيكت أنسجتنا، ودبغ أديمنا، وصيغت صورنا وأشكالنا - وعلينا وعلى كل ما نملك أو نبصر أو نفعل قد كتب الزمن شعاره وحكمه: لا قرار في موضع ولا دوام على حال، سر إلى غايتك، وامض قدما إلى قسمتك.
صفحه نامشخص