وكان أبراهام في المحكمة كما كان في خارجها؛ الرجل المتواضع المحتشم، يدخلها وجيوبه منتفخة بأوراقه وقبعته ثقيلة بما حوت منها، لا يشغل نفسه بأبهة المظهر وقد سلم له الجوهر، ولا يدري ما التطاول والتعاظم وقد عظم حتى صارت العظمة هي ما يفعل.
كان الصدق في الدفاع أول وسائله في الإقناع، وقد يتبين له أثناء دفاعه أن الحق قد ألبس عليه بالباطل فيتنحى عن القضية من فوره؛ لأنه لا يستطيع أن يلائم بينها وبين طبعه، أو أن يرفعها إلى مستوى حماسته وصدق شعوره، وكان المنطق السليم والإنصاف بعد ذلك من أهم أدواته، يضاف إليهما الدراسة الدقيقة لما ينهض له والإحاطة بجميع تفاصيله، هذا إلى ما امتاز به من صفاء الذهن صفاء يساعده على تبين الطريق إلى غايته في يسر ووضوح، وما أوتيه من ذاكرة عجيبة تواتيه بما يطلب حتى ما يلتوي عليه أمر أو يعزب عن ذهنه حادث.
وكان يتوخى العدالة فيما يعمل ويعنى أشد العناية بالأمانة في كل صغيرة أو كبيرة من المسائل. حدث صديقه هرندن أنه اضطر ذات مرة إلى تأجيل قضية من القضايا إلى دور مقبل، ولكنه لم يجد في نفسه أسبابا يطلب من أجلها التأجيل، وأحس أنه لو ترافع خسر القضية لقلة استعداده لها، فبينما هو في حيرته إذ سمع محامي الخصوم يذكر خوفه من أن يعلم هرندن بحقيقة من الحقائق، فأسرع هرندن يطلب التأجيل مشيرا إلى تلك الحقيقة، ذاكرا للمحكمة أنه يستطيع تقديم أدلة إثباتها إذا أعطي مهلة، وكاد يظفر بالتأجيل لولا أن قدم لنكولن فسأل زميله هل بنى طلبه على هذا السبب حقا، وهل يستطيع تقديم أدلة إذا أمهل؟ فذكر له هرندن أنه تسقط تلك الحقيقة من محامي الخصوم، ولا ضير أن يطلب التأجيل عله يقع على أدلتها فيما بعد، فتجهم وجه لنكولن ولعب في شعر رأسه مليا بإصبعه ثم قال: «كلا؛ إن هذا نوع من الخداع، والخداع في أكثر الأحيان اسم آخر للكذب، فخير لنا أن نسحب طلبنا؛ فإننا لا نأمن أن نواجه يوما ما بما فعلنا بعد أن تكون هذه القضية قد نسيت منذ زمن طويل.» وسحب هرندن طلب التأجيل وبمساع أخرى بذلها الموكل - ولا دخل لهرندن وصاحبه فيها - أجل القاضي القضية إلى دور مقبل، ونجت القضية من خطر الخسارة.
وكان إذا ترافع يؤثر الهدوء ويعنى بإبراز الحقائق، ولا يحفل بفخامة الألفاظ وصوغ العبارات في صورة خطابية هي إلى الصخب والضجيج في رأيه أقرب منها إلى البلاغة الصحيحة؛ إذ إن البلاغة الصحيحة عنده هي التعبير السليم الواضح عما يراد لا أكثر من ذلك ولا أقل، أو هي الوصول إلى المعنى من أقرب السبل وبأيسر الطرق، وكان لا يتكلف الإشارات والانفعالات والمبالغة في إظهار بعض الألفاظ، أو النطق بها نطقا تطابق نغمته لهجة تأكيد أو إيضاح أو إبراز غضب أو ما شاكل ذلك؛ فإن هذه أمور يراها بعيدة كل البعد عن سلامة الأداء وحسن الإقناع. حدث مرة أن لجأ أحد المحامين عن خصوم موكله إلى الضجيج بالعبارات الطويلة الصاخبة والكلمات الفخمة البراقة، فانتظر لنكولن حتى سكنت ريحه وابتسم في هدوء، ثم عمد إلى حكاية من حكاياته فسردها؛ وهي حكاية عن رجل لا يتقيد بالأديان وجد نفسه وسط عاصفة فيها رعد وبرق، فخر على ركبتيه واتجه إلى السماء قائلا : يا رب إن كانت تجري عندك الأمور هكذا حيثما اتفق وكل وجوهها عندك سواء، فأعطنا من الضوء أكثر من هذا البرق ومن الضجيج أقل من هذا الرعد ... وهكذا نراه أبدا لا تعوزه النادرة أو القصة يصور بها ما يقوم في نفسه من معنى، أو يرتسم بذهنه من سخرية.
وعرف عنه فيما عرف الأناة، فما يقدم على فعل أو قول إلا بعد تثبت ليكون على بينة من أمره، وكثيرا ما تبرم صديقه هرندن وتململ من هذه الأناة، فانظر إلى أبراهام يسأله أن يأتيه بمبراة وسكين، فإذا أحضرهما قال له: «إن سلاح تلك المبراة أقصر وأحد، ولعلك بذلك تظنها أنفع من السكين؛ إذ هي أسرع منها، ولكن انظر أيتهما أبعد من الأخرى غورا إذا نفذتا في جسم؟ ومثل السكين كمثل عقلي في تدبير المسائل والنظر فيها؛ فقد يبدو أني بطيء في قطع الأمور، ولكني إذا قطعت أمرا فإنه يكون بعيد المدى.» ويقتنع صاحبه أن التأني أبعد في سبر الأمور غورا، ويعزم ألا يشتكي بعد من أناته ثم إذا هو يطيق معه صبرا.
وكان مما يهابه منه المحامون تهكمه؛ فهو يعمد في دفاعه أحيانا كما كان يفعل في خطبه السياسية إلى التهكم اللاذع البارع، فيزلزل به قدمي خصمه حتى ليذهل عن رشده بين ما ينبعث من جوانب القاعة من الضحك.
على أنه كان يغضب أحيانا فلا يقف غضبه عند حد؛ وذلك إذا وجد في أحد مجادليه من المحامين أثناء الدفاع ميلا إلى الخديعة أو الكذب، أو إذا اشتم من أحد القضاة شيئا من التحيز، وعندئذ يغلظ في القول، ويقسو في تعبيره أشد القسوة، ويرى الناس منظره في هياجه كريها يبعد كل البعد عما ألفوه من دماثته وهدوئه ورقة حاشيته.
ويرى هرندن أن أبراهام كان محامي قضية أكثر منه رجل قانون؛ أعني أنه كان ماهرا في تقصي الوقائع والتفاصيل الجزئية والوصول بها إلى النتائج التي كان يريدها، أما التطبيق القانوني أو الفقه الذي يقوم على الدراسة والضلاعة فلم يكن فيه أبراهام طويل الباع، وقد شايع هرندن في رأيه هذا بعض الناس وخالفه فيه بعض، ويرى هؤلاء المخالفون أن أبراهام كان يعتمد على حاسة العدالة في نفسه، وكانت هذه الحاسة قوية عنده أشد القوة،، كما كان يعتمد على المنطق، وقد بلغ في قوة المنطق الذروة، وعلى هذا فقد كان من الأفذاذ القلائل الذين يرد القانون إلى إدراكهم وشعورهم ومنطقهم، ولا يرد ذلك فيهم إلى أوضاع القانون واصطلاحاته، وما هو في حاجة بعد إلى الاستناد إلى المواد والنظر في مدى انطباقها أو عدم انطباقها على ما في يده من قضايا، اللهم إلا في حالات معينة لا محيص فيها عن القانون، وهم يرون أن الأمر في مثل تلك الحالات أمر شكل لا أمر فقه؛ فهو في إمكان كل من مرن على مواد القانون وأعانته ذاكرته على حفظها.
ومع هذا فإن صديقه هرندن نفسه يحكي عنه أنه ذات مرة شهده أثناء الدفاع يتعرض للقانون ويستطرد في تاريخ التشريع، وآنس صاحبه في كلامه الضلاعة والإحكام، ولكنه ظن ألا فائدة ترجى منه؛ فإن المحكمة تعرف كل هذا، ولما فاتحه في ذلك بعد خروجهما من المحكمة قال لنكولن: «ذلك موضع خطئك، فإني لم أجرؤ على أن أكل القضية إلى ما يفترض من معرفة المحكمة بكل هذا، والحق أني سرت فيها على افتراض أن المحكمة لا تعلم شيئا من هذا.»
وما من قضية من القضايا التي تناولها إلا وفيها شاهد أو شواهد على سمو الدوافع التي أدت به إلى تناولها، وسمو الروح التي تسيطر عليه أثناء العمل، فإحقاق الحق والدفاع عن المستضعفين غايته أبدا، والأمانة والصدق وتوخي الإنصاف والعدالة سبيله إلى بلوغ تلك الغاية، وهو في القضايا الصغيرة كما هو في الكبيرة متحمس للحق مهتم بالدفاع عنه والاقتناع به.
صفحه نامشخص