إذن فمجال الحياة في الغابة يضيق عن همته، وحسبه ما استوعب هنا من تجارب وما خبر من سلوك الناس، فليخرج إلى عالم المدنية، وليضرب في الأرض، فما كانت الهجرة إلا سبيل المجد.
وإنه ليفضي بتلك الرغبة إلى من حوله من الشباب، فيكدرهم اعتزامه المغيب عنهم، وما منهم إلا من يحب ذلك الشاب الطيب القلب الذي تعبر عيناه عن أمانته وإخلاصه كما يعبر لسانه عن أدبه ودماثته، ويشير بعض خلانه إلى أبيه وكيف يتركه في الغابة وحده، فيذكر الفتى تلك الحقيقة، ويفكر ويطيل التفكير حتى ليكاد يركن إلى البقاء. •••
شاءت الأقدار أن يذهب أبراهام في رحلة ثانية إلى نيو أورليانز؛ فقد استأجره بعض الجيران وقد نمى إليه أنه القوي الأمين الذي يحسن أن يتعهد بيع تجارته، فخرج وفي صحبته ثلاثة رفاق في قارب من صنع يديه، وقد جعل الرجل له ستة عشرة ريالا في الشهر أجرا على عمله كما جعل لرفقائه كذلك بعض المال نظير معونتهم.
ولقد وقع للفتى في هذه الرحلة حادث كان بمثابة امتحان جديد لهمته وسرعة خاطره؛ وذلك أن القارب قد اصطدم بحاجز صخري عند بلدة نيو سالم، فتعلقت مقدمته على الصخر، وانحدرت مؤخرته حتى اغترف من الماء، وأوشك أن ينقلب بحمله وملاحيه في النهر، وتجمع خلق كثير على الشاطئ، فمنهم من يصيح بمن في القارب يقترح وسيلة النجاة، ومنهم هازلون يتخذون من الحادث ملهاة، فهم يضحكون ويسخرون في سماجة وقحة، ولكنهم جميعا لا يتقدمون بمساعدة، على أنهم لا يلبثون أن يجدوا ذلك الفتى الطويل الذي يبدو لأعينهم كالمارد يتقدم في خفة ومهارة، فينقل بعض بضاعته إلى مقدمة القارب حتى تعلو المؤخرة، ثم يثقب فيها بعض الثقوب فيخرج منها الماء، وإذ ذاك يقفز في اللجة ويستعين برفاقه وببعض الحبال حتى يجنب القارب ذلك الحاجز الصخري، ثم يسد الثقوب، ويعيد توزيع البضاعة على ظهر القارب، فيسبح في هدوء ويتخذ سبيله كأنه لم يعقه عائق، والقوم على الشاطئ يلوحون له بأيديهم، وقد انقلبوا جميعا معجبين به، فلا هازل بينهم ولا ساخر، وشاع حديث ذلك المارد في نيو سالم كلها.
وقضى الفتى ورفاقه في مدينة نيو أورليانز زهاء شهر، ولما فرغوا من أمر البضاعة اتخذ الفتى سبيله إلى أسواق الرقيق يدرس حالها من كثب، فهو لم ينس ما تركه حال العبيد من أثر في نفسه منذ زيارته الأولى، وإنه ليهتم بهذا الأمر أكبر الاهتمام ويقلبه في خاطره على كافة وجوهه، فهل كان يدري ابن الغابة أنه سوف يخطو بالإنسانية خطوات واسعة نحو النور بتحرير هؤلاء العبيد وفك أصفادهم؟ كلا! ما كان يدور بخلده يومئذ شيء من هذا.
رأى، ويا لهول ما رأى! رأى في تلك الأسواق جماعات من السود ذكورا وإناثا جيء بهم كالقطعان قسرا من مواطنهم مقرنين في الأصفاد إلى حيث يباعون كما تباع الماشية؛ يلهب النخاسون جلودهم بالسياط، ويسوقونهم كما تساق الأنعام، كأنهم لا يمتون إلى البشرية بصلة!
وأخذت عيناه، فيما رأى، فتاة جميلة المحيا مرهفة القوام، يعرضها الباعة على المتفرجين نصف عارية، كما لو كانوا يعرضون فرسا كريمة، وقد افتتن بقوامها وقسمات وجهها الشاهدون، وأبراهام تتحرك نفسه من أعماقها ويتألم ما وسعه الألم. وصفه أحد زميليه فقال: «رأى لنكولن ذلك فكأن قلبه يدمى، لم تتحرك شفتاه أول الأمر وظل صامتا ومشت كدرة الهم في وجهه فبدا كريه المظهر، وأستطيع أن أقول وأنا به عليم إنه كون لنفسه في تلك اللحظة رأيا في مسألة العبيد ... فلقد التفت إلي قائلا: إني أكره أن أكون عبدا، ولكني أكره كذلك أن أكون من ملاك العبيد، ولئن قدر لي أن أسدد ضرباتي إلى هذا النظام فسأضرب بشدة.»
ويروى أنه في هذه الحالة مر بعرافة سوداء فنظرت إليه وقالت: «أيها الفتى، إنك ستكون يوما ما رئيسا للولايات المتحدة، ويومئذ سوف يتحرر جميع العبيد.» فهل كانت كلمات العرافة كلمات القدر تجري على لسانها في تنبؤ عجيب؟
وألفى أبراهام نفسه في المدينة تحيط به أسباب الغواية، ولكن هل كان لنفس مثل نفسه محصتها الشدة وعصمتها الفاقة وطهرتها حياة الغابة من أوشاب المدنية وأوضار الترف؛ أن تزل أو ترقى إليها غواية؟
إنه ما فكر أثناء إقامته في المدينة إلا فيما جاء له، ثم إن تفكيره بعد بيع البضاعة قد انصرف إلى هؤلاء العبيد فكان يملأ وقت فراغه، ولقد كان يعنى أشد العناية بالاستماع إلى المجادلين في مسألة امتلاك العبيد، فيرهف أذنيه كلما تطرق الحديث إلى تلك المسألة، ويتتبع الحجج التي يدلي بها كل متكلم، يفعل ذلك في أناة وفي غير تحيز كما يستمع القاضي الذي يتلمس وجه الحقيقة في قضية من القضايا.
صفحه نامشخص