كانت الأرض في الشمال على العموم أقل خصبا منها في الجنوب، وكان الناس وهم من النازحين الأوروبيين، وبخاصة الأنجليز، يزرعون مساحات منها تكفي لسد حاجاتهم مما يؤكل، فكان الرجل يعتمد على معونة بنيه فحسب؛ ومن ثم كان هؤلاء الزارعون في الشمال فقراء، ولم تنشأ هناك الملكيات الواسعة إلا في حالات نادرة.
على أن ذلك لم يحل دون ظهور الطبقات والفوارق الاجتماعية؛ فهناك فريق التجار من ساكني المدن القريبة من المحيط، وكان هؤلاء يصدرون إلى إنجلترة حاصلات المستعمرات ويستوردون المصنوعات ليبيعوها لساكني المدن ولمن يطلبها من الزارعين. ولقد انحصرت الثروة في أيدي هؤلاء التجار، فكانوا هم الطبقة الأرستقراطية في الشمال، وكان الزارعون ينظرون إليهم نظرة الحقد والكراهية، وفي هؤلاء التجار وأبنائهم انحصرت الوظائف الإدارية ووظائف الجندية؛ إذ كان لهم قسط من التعليم يضاف إلى حظهم من الجاه، وإن كان تعليمهم يومئذ محدودا على قدر مستوى مدارسهم ومستوى معلميها.
أما في الجنوب فكان الحال على خلاف ذلك؛ إذ كانت الثروة في أيدي الزارعين؛ وسبب ذلك أن التربة أكثر خصبا، وأن المناخ يساعد على زراعة الطباق، وهو محصول كان يغري تصديره إلى أوروبا بالإكثار من زراعته وكسب المال الموفور من هذه الزراعة، ولقد كان ذلك سببا في حاجة الزراعين إلى عدد عظيم من الأيدي العاملة، فماذا يصنع أهل الجنوب؟ لقد لجئوا إلى أمر أدى إلى خلق مشكلة من أعقد المشاكل؛ وذلك أنهم أخذوا يستخدمون السود من العبيد ويستجلبونهم بكثرة من أفريقيا، ولقد أخذ يزداد عدد هؤلاء السود منذ بداية القرن الثامن عشر.
وظهرت الفوارق الاجتماعية في الجنوب أيضا؛ فهناك كبار الملاك وصغار الزراعين، وكان صغار الزراعين في الجنوب أشبه حالا بأمثالهم في الشمال، وكانوا كذلك ينظرون نظرة الحقد والكراهية إلى كبار الملاك الذين حصلوا على الأراضي بالزلفى إلى الحكام والتقرب إليهم بشتى الوسائل، والذين استمتعوا هم أيضا بالنفوذ والمناصب الهامة، وأتيح لهم في مدارسهم حظ من التعليم، أما العبيد فكان شأنهم شأن الماشية يحشرون في حظائر كما تحشر الدواب، ويساقون إلى العمل كما تساق الأنعام، ومن كان هذا شأنهم فلن يكون لهم موضع في المجتمع، وحسبهم أن يذكر سادتهم أنهم آدميون، وقليلا ما كان هؤلاء السادة يلتفتون إلى هذا المعنى!
وكان صغار الزراعين في الشمال، وبخاصة النازحون منهم إلى الغرب على حدود الولايات، أكثر الناس بؤسا وشقاء؛ فكان عليهم أن يشقوا الأحراج، ويقطعوا الأشجار، ويزرعوا ما نتج عن ذلك من الأرض الفضاء، وكان على الرجل منهم أن يفي بكل مطالب أسرته؛ فعليه بناء الكوخ من الكتل الخشبية يسويها بفأسه، وعليه زرع الأرض وتعهد الماشية، وعليه إطعام الأسرة بما يصيب من صيد؛ ومن أجل ذلك كانت الفأس والبندقية أغلى عنده من كل شيء، وكان فرحه بالبنين عظيما؛ إذ يكونون عدته في هذا الكفاح المتواصل.
وكانت أكواخ هؤلاء الكادحين السذج تتناثر هنا وهناك على مدى البصر، وكانوا يتعرضون لهجمات الوحوش وهجمات السكان الأصليين من الهنود الحمر في تلك الأصقاع الغربية البرية، التي كانوا يعيشون فيها على نحو أشبه بعيشة آباء الإنسانية الأولين.
على أن حياة هؤلاء لم تخل من بعض المزايا؛ فقد خلصت طباعهم من أوضار المدنية ورذائلها، وغرس في نفوسهم حب الاستقلال والاعتماد على النفس، ودرجوا على الفطرة ينظرون إلى معاني الخير والشر نظرة خالية من أوضاع الفلسفة وفوضى المبررات والملابسات، فجاءت لذلك نظرتهم هذه نظرة إنسانية تتمثل فيها الرجولة الحقة لم تفسدها النظرات والتأويلات.
وغرس فيهم الخوف المتواصل على مدى الزمن ألا يبالوا بمخوف، وأن يلاقوا الشدائد والمحن صابرين أشداء، فهم لكثرة ما يلاقون من شظف المعيشة لا يجدون كبير فرق بين أوقات خوفهم وأوقات أمنهم، وقد اكتسبوا كذلك من بيئتهم كما اكتسب أهل الصحراء الإيمان بالقدر والإذعان لأحكامه.
هذه هي الحال الداخلية للمستعمرات قبل حرب الاستقلال، فأما أهل المدن فكانوا مترفين في الشمال والجنوب كما رأينا؛ التجار منهم وكبار الملاك في رغد العيش سواء، وأما الزارعون من ساكني الأكواخ فكانوا يلاقون بؤس العيش راضين صابرين، وإن كانوا يمقتون هؤلاء الأغنياء مقتا شديدا.
أما علاقة هذه المستعمرات بإنجلترة، فكانت حتى قبيل الثورة علاقة هادئة، بل لقد كان السكان في جملتهم، الأغنياء منهم والفقراء، ينظرون إلى إنجلترة نظرتهم إلى الأم، وكثيرا ما كانوا يسمونها «الوطن»؛ إذ كان معظمهم قد هاجروا إلى أمريكا من هناك؛ أما الأغنياء فكانوا يحرصون على العلاقات التجارية بينهم وبين إنجلترة، ويعتمدون على أسطولها في حماية متاجرهم ونقلها، فهم لذلك موالون للتاج البريطاني، وأما الفقراء فلم يكن لهم صلة بالسياسة واتجاهاتها، اللهم إلا فئة قليلة ممن كانت لهم بالمدن علاقة، وكان الأغنياء والفقراء جميعا يحرصون على أن تحميهم إنجلترة من الفرنسيين في كندا والإسبان في فلوريدا. •••
صفحه نامشخص