ولكن أبراهام يعلن إليهم في ثبات عجيب أن مصالحة أهل الجنوب معناها التهاون في المبادئ، والتسليم بانتشار الرق، والاعتراف بحقهم في اتباع القوة وفي الانسحاب من الاتحاد، وهو لا يأمن أن يعودوا إلى مثل ذلك في أي وقت. ويسمع أصحابه ذلك الكلام ويعقلونه ولكنهم خائفون، وإنهم ليحملونه كل ما عساه أن ينجم بعد ذلك من مصائب.
والنذر لا تني تأتي من الجنوب بما يقلق المضاجع ويزعج النفوس؛ فها هي ذي ست ولايات أخرى تنسحب من الاتحاد، وتنضم إلى كارولينا الجنوبية فتؤلف من بينها تحالفا، وتجعل له حكومة يرأسها جفرسون دافز. وهكذا يقع ما طالما تخوف أبراهام أن يقع؛ ففي البلاد اليوم حكومتان، وينهار البناء على هذا النحو حجرا بعد حجر، والرئيس الجديد ما يزال في سبرنجفيلد يشهد ما تفعل العاصفة.
ويحمل البريد إلى أبراهام كل يوم آلافا من الرسائل، بينها نوع تنفر نفسه منه كل النفور، وإن كان لا يجزع ولا يرتاع، نوع ملؤه الوعيد والسباب، وتفصيل صور الموت التي تنتظره إن هو مضى فيما هو فيه وأصر على عناده، وهو يطوي تلك الرسائل ليلقي بها في النار مخافة أن تقع عين امرأته على ما يتوج الكثير منها من صور الخناجر وأسلحة الموت.
ويتطلع أبراهام في هذا الهول إلى وشنطون ليرى ما عسى أن يفعله بوكانون الرئيس القائم، ولكن هذا الرجل يسلك مسلكا عجبا؛ فهو يتراخى ويتهاون ويدع الأمر كله للرئيس القادم، فما هي إلا أيام حتى يأوي إلى عزلته، وليته يحافظ على الحال كما هي، إذن لخفت تبعته وقل وزره، ولكنه يدع أنصار الجنوب يفعلون ما يشاءون ويعدون ما يستطيعون من قوة ومن عتاد الحرب، ثم يزيد فداحة الخطب بتصريح له خطير، مؤاده أنه وإن لم يكن للولاية حق الانسحاب من الاتحاد، فليس لحكومة الاتحاد حتى ردها إليه بالقوة إذا هي انسحبت، ويكون بوكانون بتصريحه هذا كمن يلقي بالحطب على النار حين يجدر به أن يلقي عليها الماء!
وتشيع الخيانة في وزرائه، فيرسل بعضهم الرجال والمال إلى الولايات الجنوبية، ويستقيلون من مناصبهم، ومن ذلك ما فعله وزير الحرب؛ إذ أرسل أكثر رجال الجيش إلى الجنوب كما أرسل إلى هناك ما استطاع إرساله من العتاد والمؤن، وكذلك ما فعله وزير المال؛ إذ أرسل ما وسعه إرساله من مال الخزانة العامة إلى الجنوب، حتى أوشكت أن تصبح خالية، وما فعله وزير الشئون الداخلية؛ إذ عمل على سحب الجند من بعض المواقع الهامة وتسليمها إلى أهل الجنوب! وهكذا يبيت الأمر فوضى، حتى لكأن البلاد بغير حكومة. وليس أدل على مبلغ هذه الفوضى من كلمة قالها أحد الشيوخ من ولاية كارولينا الشمالية يومئذ؛ فقد حدث وزير الشئون الداخلية هذا الشيخ قائلا له إنه انتدب ليعمل على أن تنسحب كارولينا الشمالية من الاتحاد، وفهم الشيخ أن ذلك معناه أن الوزير استقال حتى يكون له أن يفعل ذلك، ولكن ما كان أعظم دهشة الشيخ إذ نفى الوزير استقالته، قائلا إن الرئيس بوكانون يريده على أن يبقى حتى اليوم الرابع من شهر مارس، وتساءل الشيخ في دهشة، أيعلم بوكانون ماذا يصنع الوزير في كارولينا الشمالية؟ وأجاب الوزير أنه يعلم ذلك، فصاح الشيخ قائلا: «لم أعلم من قبل أن حاكما يرسل عضوا من أعضاء وزارته ليصنع ثورة ضد حكومته.»
وتقدم أحد الوزراء إلى بوكانون ساخطا يعلن له احتجاجه فما أصاخ إليه، فقال له ذلك الوزير الأمين: «إن واجبي كناصحك الشرعي هو أن أنبئك أنه ليس لك من حق في أن تسلم شيئا مما هو من أملاك الدولة، ولا أن تدع أعداءك يأخذون جيشها وسفنها، وإن ما سلكه وزير الأمور الداخلية في هذا الشأن لهو من الخيانة، ولوسف يشركك ومن كان له يد في هذا فيما ينطوي عليه ذلك الفعل من معنى.» ثم ناوله الوزير استقالته.
ويشتد عدوان أهل الجنوب، وقد اتخذ الاتحاد الجديد هناك دستورا جديدا يقر الرق، ويعلن أنه أمر مشروع من وجهة الدين ومن وجهة الخلق، وكذلك من وجهة النظام الاجتماعي؛ ويعظم بذلك هياج العاصفة ويشتد دويها.
وأبراهام في سبرنجفيلد كالسنديانة العظيمة لا تهز العاصفة إلا فروعها؛ يخوفه سيوارد عاقبة الأمر فلا يخاف ولا يلين، ويسخط بعض أهل الشمال أنفسهم على أبراهام وينكرون عناده وإصراره على موقفه من الرق فلا يحجم ولا يتراجع. قال ذات مرة لرجل يحاوره: «اذهب إلى شاطئ النهر وخذ معك غربالا متينا فاملأه بالحصى، فسترى بعد هزات قوية أن الرمل وصغيرات الحصى تنفذ من الثقوب وتتوارى عن الأعين؛ إذ تضيع على الأرض وتبقى في الغربال القطع التي تزيد عنها حجما؛ إذ إنها لا تنفذ من بين الخيوط ... وبعد هزات أخرى متكررة يتبين لك أنه من بين القطع الباقية في الغربال تصل كبرياتها إلى القمة، وهكذا فإنه إذا لم يكن من الحرب بد، وأن هذه الحرب سوف تهز البلاد من وسطها إلى جوانبها، فإنك ستجد صغار الرجال يتوارون عن الأنظار في هزاتها، بينما ترتكز الكتل على قواعد ثابتة ويرتقي أكابر الرجال إلى القمة، ومن بين هؤلاء يبرز أعظمهم فيكون منه قائد القوم في الصراع القائم.»
هذا هو العز الذي لا يعرف التردد، ولكن من وراء هذا العزم نفسا شاعرة وقلبا عطوفا وطبعا ينفر من الشر، وما كانت هموم نفسه إلا مما يريد أن يدفعه عن بلده من شر وبيل يوشك أن يملأها من بعد أمنها خوفا، أما عن نفسه فهو لا يبالي أن يذوق الموت بعد أن جمع للجهاد عزمه وجعل لقضية الاتحاد همه.
وها هو ذا قد وصل في بلاده إلى القمة، فهل ابتغى من وراء ذلك جاها أو تلهى بالعرض عن الجوهر؟ هل تنفس الصعداء واستكان إلى الدعة وجعل من المنصب متعة وغرورا؟ كلا، فها هو ذا يجعل من وصوله إلى هذه المرتبة مبدأ مرحلة جديدة في جهاده المرير، وإنه ليحس أنه هالك في الجهاد لا محالة، ففي نفسه من المعاني ما يشير إلى ما سوف يلقاه من خطوب وويلات، تحدث هذا الصنديد الجلد إلى صديق له بعد فوزه بالرياسة بسنوات، يصف ما كان يهجس في خاطره عقب ذلك الفوز، فذكر أنه نظر ذات مرة يومئذ، وقد جلس متعبا على مقعد إلى مرآة أمامه، فرأى فيها لوجهه صورتين، فوثب في مكانه يستوثق من ذلك فامحت الرؤيا، ولكنها عادت كما كانت حين عاد فجلس، وكانت إحدى الصورتين تخالف الأخرى في أنها تبدو مصفارة مخيفة، ولقد أوجس أبراهام في نفسه خيفة، ولم يكن خوفه مما رأى في ذاته، بل كان لما انبعث منه من معان في نفسه. ولقد تكرر ذلك المنظر بعد أيام ثم انقطع على رغم محاولاته أمام المرآة، أما امرأته فإنها فسرت ذلك بأنه سيختار للرياسة مرة أخرى ثم يموت في تلك المرة! يالله ما أعجب نبوءات هذه المرأة!
صفحه نامشخص