التفت إليها كاظما غضبه. «سآخذ ما أحتاج إليه وسأفعل ما أنا مضطر له. لكم من الوقت ستصمدين من دون مياه؟ لا يمكننا أن نعيش على التوت البري. نحن بحاجة إلى طعام وشراب وأغطية ولوازم للولادة. نحن بحاجة إلى سيارة. سيكون لدينا أمل إن استطعنا الوصول إلى مخبأ قبل أن يصل رولف إلى المجلس. أم أنك بدلت رأيك؟ ربما تريدين أن تتبعي خطاه وتسلمي نفسك إليهم.»
هزت رأسها نفيا دون أن تنطق بكلمة. رأى الدموع تترقرق في عينيها. أراد أن يضمها بين ذراعيه. لكنه ظل واقفا على مسافة منها، ووضع يده في جيب معطفه الداخلي وتحسس ثقل المسدس البارد.
الفصل الثلاثون
انطلق فور أن حل الظلام، متلهفا للذهاب، كارها إضاعة أي لحظة. كانت سلامتهم تعتمد على سرعة تحصله على سيارة. سارت جوليان وميريام حتى حافة الغابة وراقبتاه وهما متواريتان عن الأنظار. عندما التفت ليلقي عليهما نظرة أخيرة، جاهد كي يدفع عن ذهنه الاعتقاد الذي راوده للحظات بأن تلك قد تكون آخر مرة يراهما. تذكر أنه رأى أضواء قرية أو بلدة صغيرة غرب الطريق. قد يكون أقصر طريق هو عبور الحقول، لكنه كان قد ترك الكشاف مع المرأتين، ومحاولة شق طريقه وسط الحقول في الظلام في بلدة لا يعرفها قد يكون لها عواقب كارثية. انطلق يعدو، ثم سار في الطريق الذي سلكوه أثناء سفرهم وهو يمشي تارة ويعدو تارة أخرى. بعد نصف ساعة وصل إلى مفترق طرق، ووقف يفكر لبرهة ثم سلك الطريق الأيسر.
بعد نصف ساعة أخرى من المشي السريع، وصل إلى أطراف البلدة. كان الطريق الريفي المعتم محفوفا من جهة بسور من الشجيرات العالية المنتشرة بغير نظام وبدغل غير كثيف من الجهة الأخرى. كانت تلك هي الجهة التي سار فيها، وعندما سمع سيارة تقترب، انسل ليتوارى في ظل الأشجار، مدفوعا برغبة غريزية في الاختباء من ناحية، ومن ناحية أخرى بخوفه المبرر من أنه قد يثير الانتباه كونه رجلا وحيدا يسير مسرع الخطى في الظلام، لكن ما لبث أن حل محل سور الشجيرات والدغل منازل معزولة تقف بعيدة عن الطريق وسط حدائق واسعة. لا بد أنه سيجد بمرأب أحد تلك المنازل سيارة أو ربما أكثر. لكن من شأن المنازل ومرائبها أن تكون مؤمنة جيدا؛ فتلك المنازل المترفة الفاخرة لن تترك دون تحصين من لص عابر عديم الخبرة. كان يبحث عن ضحايا يسهل إثارة خوفهم.
وعندما وصل إلى البلدة أبطأ الخطى. شعر بنبضه يتسارع، بالدقات القوية المنتظمة بين ضلوعه. لم يكن يريد أن يتعمق في البلدة ويقترب من مركزها كثيرا؛ فقد كان من المهم أن يعثر على ما يحتاجه في أقرب وقت ممكن ثم يجد طريقا للهرب. حينها رأى، في زقاق إلى يمينه، صفا من الفيلات شبه المنفصلة، المكسوة حوائطها بكسارة الحصباء. كان كل منزلين متصلين متطابقين شكلا، ولهما نافذة مشرفة بجوار الباب ومرأب متصل بالحائط الجانبي. دخل وهو يكاد يسير على أطراف أصابعه كي يتفحص أول منزلين قابلاه. كان المنزل على اليسار خاويا، ونوافذه موصدة بالألواح الخشبية ومعلق على بوابته الأمامية لافتة كتب عليها «للبيع». كان من الواضح أنه خاو منذ وقت طويل؛ فقد كان العشب أمامه طويلا وغير مشذب، وكان مرقد الأزهار الدائري الوحيد بمنتصف حديقته عبارة عن كومة من شجيرات الورود التي نمت نموا مفرطا وتشابكت أغصانها الشائكة، وتدلت آخر ورودها المتفتحة على آخرها متهدلة ذابلة.
أما المنزل على اليمين فكان مأهولا وكان يبدو مختلفا عنه تماما؛ فقد كان الضوء يظهر من خلف ستائر غرفته الأمامية المسدلة، وكان عشب حديقته الأمامية مجذوذا بعناية ويحف الدرب مرقد من أزهار الأقحوان والأضاليا. ثبت سياج جديد ليفصل بين المنزلين، ربما في محاولة لحجب وحشة المنزل المجاور، أو كي لا تتسلل إليه الحشائش الضارة. بدا مثاليا لغرضه. فدون جيران، لن يتلصص أو يتسمع عليه أحد، وبقربه من الطريق سيكون بإمكانه أن يلوذ بالفرار سريعا. لكن هل توجد بمرأبه سيارة؟ سار إلى بوابته وأمعن النظر في الممر المفروش بالحصى فتبين علامات إطارات سيارة وبقعة زيت صغيرة. أثارت بقعة الزيت قلقه، لكن المنزل الصغير كان في حالة جيدة للغاية، وكانت الحديقة بلا شائبة، فلم يتخيل ألا يجد السيارة تعمل مهما كانت صغيرة وقديمة. لكن ماذا إن كانت لا تعمل؟ حينها سيكون عليه أن يبدأ مرة أخرى وخطر محاولة ثانية سيكون مضاعفا. درس عقله الاحتمالات بينما كان يقف بجوار البوابة يتلفت يمينا ويسارا ليتأكد من أن لا أحد يراقب تلكؤه أمامها. بإمكانه أن يمنع سكان ذلك المنزل من الإبلاغ عنه؛ سيتعين عليه أن يقطع سلك الهاتف وأن يكبلهم. لكن ماذا إن فشلت محاولته للعثور على سيارة في المنزل التالي الذي سيبحث فيه أو الذي يليه؟ كانت فكرة تكبيل مجموعة متتابعة من الضحايا فكرة هزلية وخطيرة في الوقت نفسه. في أفضل الظروف سيحظى فقط بمحاولتين. إن فشل في إيجاد سيارة هنا فقد تكون أفضل خطة هي أن يوقف سيارة على الطريق ويجبر سائقها وركابها على الخروج منها. بتلك الطريقة سيضمن على الأقل أن تكون سيارة تعمل.
تلفت حوله بسرعة مرة أخيرة ثم فتح مزلاج البوابة بهدوء ودخل يمشى بخطى سريعة، ويكاد يخطو على أطراف أصابعه، نحو الباب الأمامي للمنزل. حينها تنفس الصعداء. كانت الستائر غير مسدلة بالكامل على اللوح الزجاجي الجانبي للنافذة البارزة وكانت توجد فرجة عرضها حوالي ثلاث بوصات بين حافة الستارة وإطار النافذة استطاع أن يراقب خلالها بوضوح ما يجري داخل الغرفة.
لم يكن بها مدفأة وكان جهاز تلفاز قديم يشغل حيزا كبيرا منها. أمام التلفاز كان يوجد مقعدان بمسندي ذراع وكان بوسعه أن يرى رأسين أشيبين لعجوزين، على الأرجح رجل وزوجته. كانت الغرفة مفروشة بأثاث بسيط فكان بها طاولة وكرسيان وضعت بجوار نافذة جانبية، ومكتب صغير من خشب الزان. لم ير بها أي صور أو كتب أو تحف أو أزهار، لكن على أحد حوائطها علقت صورة فوتوغرافية ملونة كبيرة لطفلة واستقر تحتها كرسي أطفال مرتفع عليه دب لعبة يرتدي رابطة عنق ضخمة منقطة.
حتى من وراء الزجاج، كان بوسعه أن يسمع صوت التلفاز بوضوح. لا بد أن ذينك العجوزين أصمان. عرف البرنامج المعروض على التلفاز: كان اسمه «الجيران»، وهو مسلسل تلفازي بميزانية منخفضة من أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات أنتج في أستراليا، وكانت أغنية مقدمته تافهة لدرجة لا تقارن. من الواضح أن المسلسل حصد نسبة متابعات ضخمة عندما عرض للمرة الأولى على أجهزة التلفاز القديمة، والآن أعيد تهيئته ليناسب أجهزة التلفاز الحديثة ذات الوضوح العالي، وأصبح له جمهور معجبون. وكان سبب ذلك لا يخفى على أحد؛ فقد كانت أحداثه التي تقع في إحدى الضواحي المشمسة النائية تثير الاشتياق والحنين إلى عالم وهمي من البراءة والأمل. لكن الأهم من ذلك أن أحداثه كانت تدور حول الصغار؛ فقد كانت الصور المشرقة لوجوه الصغار وأطرافهم وأصواتهم، مع أنها غير ملموسة، تخلق شعورا وهميا بأنه في مكان ما تحت سماء موازية لا يزال ذلك العالم اليافع المؤنس موجودا ويمكن للمرء الدخول إليه إن أراد. بالدافع نفسه وللحاجة نفسها، كان الناس يبتاعون مقاطع فيديو لولادات، أو لأناشيد أطفال، وبرامج أطفال مثل «رجلا أصيص الزهور»، و«بلو بيتر».
صفحه نامشخص