كان الحقل وعرا ومكسوا بالحشائش، وكانا يسيران بحذر وأعينهما صوب الأرض. من حين لآخر كان أحدهما يتعثر فيمد الآخر يده بسرعة ليسنده، بينما كانت ميريام تصوب كشافها وتبحث في دائرة ضوئه عن مسار لم يكن موجودا. خيل لثيو أنه لا بد أنهما يبدوان مثل زوجين مسنين، آخر ساكنين بالقرية المهجورة يشقان طريقهما خلال الظلمة النهائية إلى كنيسة سانت أوزولد يدفعهما فكر رجعي أو حاجة غريبة لأن يموتا على أرض مقدسة. على يساره امتدت الحقول حتى سياج شجري عال كان يعلم أن وراءه يجري نهر ويندرش. بعد زيارتهما للكنيسة، اضطجع هو وزان هناك على العشب ليراقبا الأسماك وهي تندفع وتتقافز في تياره البطيء، ثم استلقيا على ظهريهما وحملقا للأعلى عبر أوراق الشجر الفضية إلى السماء الزرقاء الصافية. كانا قد أحضرا معهما نبيذا وحبات فراولة ابتاعاها في طريقهما. وجد أنه يتذكر كل كلمة من حديثهما.
قال زان وهو يضع حبة فراولة في فمه، ثم يتقلب ليلتقط زجاجة الخمر: «يا لها من أجواء تشبه أجواء مسلسل «برايدشيد» يا صديقي العزيز. أشعر أني بحاجة إلى دب لعبة.» ثم أردف، دون أن تتغير نبرة صوته: «أفكر في الالتحاق بالجيش.» «لماذا يا زان؟» «لا يوجد سبب محدد. على الأقل لن يكون الوضع مضجرا.» «بل سيكون مضجرا على نحو لا يوصف، إلا لمن يحبون السفر وممارسة الرياضة، وأنت لا تحب أيا من الأمرين عدا الكريكيت، وهي ليست لعبة تمارس في الجيش. فهؤلاء الفتية يمارسون رياضات عنيفة. وعلى أي حال لن يقبلوك على الأرجح. فبعد أن تقلص عددهم للغاية سمعت أنهم صاروا يدققون للغاية في الاختيار.» «بل سيقبلونني. وبعدها قد أجرب خوض مجال السياسة.» «سيكون هذا أكثر ضجرا. وأنت لم تبد أدنى اهتمام بالسياسة يوما. ولا تتبنى أي معتقدات سياسية.» «بإمكاني أن أكتسبها. ولن يكون ذلك مضجرا بقدر الحياة التي خططتها لنفسك. فأنت سوف تحصل على درجتك العلمية بمرتبة الشرف الأولى، بالطبع، ثم سيجد جاسبر وظيفة بحثية لطالبه المفضل. ثم سيأتي التعيين الإقليمي المعتاد، وستعين في إحدى الجامعات الحديثة غير المرموقة، وتنشر أوراقك البحثية، وتكتب كتابا متقن البحث سيلاقي استحسانا. ثم ستعود إلى أكسفورد بمنحة زمالة. بكلية «أول سولز» إن حالفك الحظ ولم تكن قد حصلت عليها بالفعل، ووظيفة مستديمة في التدريس للطلاب الجامعيين الذين يرون التاريخ اختيارا سهلا. آه، كدت أنسى. زوجة مناسبة، تملك من الذكاء ما يكفي لفتح حديث مقبول على طاولة العشاء لكن لا يكفي لأن تكون ندا لك، وبيت مرهون في شمال أكسفورد وطفلان ذكيان مملان يعيدان الكرة.»
حسنا، لقد صحت معظم تخميناته، بل كلها عدا الزوجة الذكية والطفلين. هل كان ما قاله في ذلك الحوار العفوي حينها حتى جزءا من خطته؟ كان محقا؛ فقد قبله الجيش. وصار أصغر كولونيل منذ 150 عاما. لكنه ظل دون ولاء سياسي، ولم يتبن أي معتقدات سوى اعتقاده أنه يجب أن يحصل على مراده، وأنه عندما يضع نصب عينيه شيئا فإنه حتما سينجح في الوصول إليه. بعد أوميجا، عندما غرق البلد في الفتور واللامبالاة، وفقد الناس الرغبة في العمل، وتوقفت الخدمات تقريبا، وخرجت الجريمة عن حدود السيطرة، وضاع الأمل والطموح إلى الأبد، كانت إنجلترا بمثابة ثمرة ناضجة في انتظار أن يمد يده ليقطفها. قد يكون ذلك التشبيه مبتذلا لكني لا أجد أدق منه. كانت كثمرة تتدلى من شجرتها ناضجة أكثر من اللازم وعطنة؛ وما كان على زان سوى أن يمد يده ليقطفها. حاول ثيو أن يزيح الماضي عن ذاكرته، لكن صدى أصوات ذلك الصيف المنقضي كان يتردد في ذهنه، وحتى في تلك الليلة الخريفية الباردة، كان يشعر بحرارة شمسه تلفح ظهره.
الآن ظهرت الكنيسة واضحة أمامهما، بمحرابها وصحنها اللذين يغطيهما سقف واحد، وبرج الجرس الصغير الذي يتوسطها. كانت تبدو بالضبط كما رآها لأول مرة، صغيرة للغاية، كنيسة بناها مؤمن شديد الإيمان كلعبة أطفال. بينما كانا يقتربان من الباب اجتاحه شعور مفاجئ بالتردد جعله يتسمر في مكانه لحظة، متسائلا للمرة الأولى بفضول وقلق متزايد عن طبيعة ما سيجده هنا بالضبط. لم يستطع أن يصدق أن جوليان حبلى، لكن ذلك لم يكن سبب قدومه إلى هنا. صحيح أن ميريام قابلة، لكنها لم تمارس تلك المهنة منذ خمسة وعشرين عاما، كما أن ثمة العديد من الحالات الطبية التي قد تحاكي أعراضها الحمل. بعض تلك الحالات خطير؛ أهو ورم خبيث ترك دون علاج لأن ميريام وجوليان انخدعتا بأمل زائف؟ كانت تلك مأساة متكررة في الأعوام الأولى التي تلت حدوث أوميجا، وكادت تماثل في شيوعها الحمل الكاذب. كره فكرة أن تكون جوليان حمقاء متوهمة، لكنه كره أكثر فكرة أن تكون مريضة بمرض مميت. وأبغض قلقه عليها، وما بدا أنه هوس بها. لكن ما الذي أتى به غير هذا إلى ذلك المكان الموحش غير المأهول؟
مررت ميريام ضوء الكشاف على الباب ثم أطفأته. انفتح الباب بسهولة عندما دفعته بيدها.
كانت الكنيسة مظلمة لكن أعضاء الجماعة كانوا قد أضاءوا ثمانية مصابيح ليلية ورصوها في صف أمام المذبح. تساءل إذا ما كان رولف قد أحضرها إلى هنا في السر سلفا قبل أن تكون ثمة حاجة لها أم تركها زوار آخرون أمضوا بالكنيسة مدة أطول. اهتزت شعلاتها لوهلة بفعل نسمة الهواء الداخلة من الباب المفتوح، فألقت ظلالا على الأرضية الحجرية وخشب المقاعد الباهت غير المصقول قبل أن تستقر مصدرة وهجا خفيفا لبني اللون. في بادئ الأمر ظن أن الكنيسة خاوية، لكنه ما لبث أن رأى ثلاثة رءوس داكنة ينهض أصحابها من أحد مقاعد الكنيسة المسورة. خرجوا منه إلى الممر الضيق ووقفوا ينظرون إليه. كانوا يلبسون ملابس توحي بأنهم سينطلقون في رحلة، فقد كان رولف يلبس قبعة قبطان وسترة واسعة من جلد الغنم، وكان لوك يلبس معطفا وكوفية سوداوين رثين، أما جوليان فكانت تضع عباءة طويلة تكاد تلامس الأرض. كانت ملامح وجوههم غير واضحة في ضوء الشموع الخافت. لم ينطق أحد. ثم استدار لوك وأمسك بإحدى الشموع ورفعها عاليا. تحركت جوليان إلى حيث يقف ثيو ورفعت بصرها إلى وجهه وهي تبتسم.
قالت: «الأمر حقيقي يا ثيو، تحسسه.»
تحت العباءة كانت ترتدي قميصا وبنطالا فضفاضين. أمسكت بيده اليمنى وأدخلتها تحت القميص القطني وأزاحت حزام البنطال المطاطي المشدود إلى آخره. شعرت يده ببطنها المنتفخ مشدودا، وأول ما خطر على باله هو الدهشة من أن بطنها البارز بالكاد كان ظاهرا تحت ملابسها. في بادئ الأمر شعر أن بشرتها المشدودة الناعمة كالحرير باردة تحت يده، لكن تدريجيا انتقل دفء يده إلى بطنها فلم يعد يشعر بأي فرق، بل شعر أن جلديهما التحم فصارا واحدا. ثم فجأة، أحس في يده بركلة. ضحكت فدوى صوت ضحكاتها المجلجلة المبتهجة في أرجاء الكنيسة.
قالت: «استمع، استمع إلى نبضات قلبها.»
كان من الأسهل أن يجثو على ركبتيه، فجثا، دون تكلف، ودون أن يعتبرها لفتة إجلال، لكنه فقط كان يعلم أنه كان يجب أن ينزل على ركبتيه. طوق خصرها بذراعه اليمنى ووضع أذنه على بطنها. لم يستطع أن يسمع نبض قلب جنينها، لكنه استطاع أن يسمع حركته ويشعر بها، شعر بحياة تنبض بداخلها. اجتاحته موجة من الأحاسيس القوية، فتلاطمته وغمرته بمزيج مضطرب من الرهبة والانفعال والرعب، ثم انحسرت فتركته منهكا واهنا. لوهلة ظل جاثيا، لا يقوى على الحركة، يكاد يستند إلى جسد جوليان، تاركا رائحتها ودفئها وروحها يتخللونه. ثم اعتدل ونهض، مدركا أن أعينهم تراقبه. لكن لم ينطق أي منهم بكلمة. تمنى لو يختفون كي يستطيع أن يسير بجوليان إلى ظلمة الليل وسكونه ويصيرا معا جزءا من الظلام ويقفا معا في ذلك السكون المهيب. كان يحتاج لأن يريح عقله في سلام، وأن يدع المشاعر تجتاحه دون أن يضطر لأن يتكلم. لكنه كان يعلم أنه مضطر لأن يتكلم وأنه سيحتاج إلى كامل قدرته على الإقناع. وقد لا تكفي الكلمات وحدها. سيحتاج لأن يجابههم بنفس القدر من العزيمة والشغف. وكل ما كان بوسعه أن يقدمه هو المنطق والحجة والفطنة، وطوال حياته كان يضع ثقته فيهم. لكنه كان الآن يشعر بضعفه وقصوره في أكثر الجوانب التي كان يثق بها في السابق.
صفحه نامشخص